هناك أكذوبة سائدة ويتواطأ عليها جميع أطراف النظام السياسي العراقي القائم والمدافعين عنه من ساسة ومثقفين وأشباه مثقفين، وهي أن الدولة العراقية القائمة اليوم هي دولة اتحادية "فيدرالية".
وهذه أكذوبة سمجة لأن إقليم كردستان منفصل فعليا وإداريا واقتصاديا وسياسيا عن الدولة العراقية منذ 1991 وحتى اليوم، بل هو اكتسب شرعية دستورية منذ 2003 بفعل دستور بريمر والصفقة السياسية بين الساسة الطائفيين الشيعة والقوميين الانفصاليين الأكراد منذ مؤتمر لندن للمعارضة العراقية قبل الغزو الأميركي. العراق القائم اليوم هو حالة شاذة وأقرب إلى دولة "كونفدرالية" أي دولة موحدة من أكثر من دولة مستقلة، هي دولة أقرب إلى دولتين مستقلتين فعليا منه إلى الدولة الاتحادية المندمجة "الفيدرالية"!
هذا واقع حال، لا ينكره الجميع ولكنهم يرفضون الاعتراف به رسميا ويكذبون على الشعب وعلى أنفسهم! ولما كان من شبه المستحيل العودة إلى عراق ما قبل 1991 فالحل ليس في استمرار ترويج هذه الكذبة الكبيرة واستمرار أجواء التهديد والرعب والابتزاز بل في البحث عن حل حقيقي متفق عليه يبدأ بإنهاء نظام المحاصصة ودولة المكونات الطائفية والعرقية! فكرة مقترحة للتمعن والتأمل:
لماذا لا يبدأ الحل الحقيقي للأزمة العراقية الشاملة في الاعتراف بالواقع القائم "الدولة المتحدة الكونفدرالية" ودسترته عبر الاعتراف بجمهورية ذات استقلال ذاتي كما كانت الحال في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق (كان هناك عدة جمهوريات صغيرة ذات استقلال ذاتي إلى جانب الجمهوريات السوفيتية القائمة)، وهذا حل يستجيب لحق تقرير المصير للقومية الكردية العراقية ضمن إطار العراق الموحد أولا، ويحافظ على وحدة العراق بحدها الأدنى القائم اليوم ثانيا، وينهي الابتزاز والتهديد اللذين تمارسهما القيادات الاقطاعية الكردية ويدفع حكم المحاصصة الطائفية ثمنهما من دم ولحم الدولة والشعب والثروات الطبيعية ثالثا؟! لتكن البداية في إعادة كتابة دستور بريمر الملغوم، دستور دولة المكونات والطوائف والعرقيات من أجل إعادة بناء العراق الواحد الديموقراطي الموحد. سؤال مهم وخطير آخر: هل ستهجر تركيا وإيران الأكراد فيهما إلى دويلة البارزاني المستقلة وتقضيان على حق تقرير المصير للأمة الكردية على حساب العراق؟ هناك حقيقية قاسية أكدتها تجربة الشعب الأرمني، يجهلها أو يتجاهلها الراكضون خلف مشروع استفتاء البارزاني بأي ثمن، وهي أن إقامة دويلة صغيرة لجزء صغير لا يتجاوز الخمس من أمة كبيرة في بقعة جغرافية محاصرة، سينهي إلى الأبد حق الأمة الأكبر في تقرير مصيرها. التجربة التاريخية الموثقة أكدت أنه بعد إقامة دولة صغيرة للأرمن في الاتحاد السوفيتي، على ما تبقى من أرض أرمينيا التاريخية (وهذا المثال يختلف من الأمثلة التي ذكرتها في فقرة سابقة عن جمهوريات ذات حكم ذاتي ليس لها امتدادات قومية أخرى خارجها)، تم اعتبار قضية الأرمن منتهية، وضاعت أراضيها في تركيا الحالية وارتاحت الدولة التركية الكمالية من الصداع المزمن الذي كانت تسببه لها قضية حقوق الشعب الأرمني. لقد تم اعتبار جمهورية الأرمن السوفيتية والتي استقلت لاحقا عن الاتحاد السوفيتي بعد تدميره دولة الأرمن القومية والوحيدة والنهائية ولم يعد من حق الأرمن أفرادا كانوا أو مجموعات قومية في أية دولة أخرى المطالبة بحقوقه القومية إذ سيقال لهم: تلك هي دولتكم الكردية فاذهبوا اليها! هذا ما سيقال غدا لأكراد تركيا وإيران وسوريا، وقد يتم تهجير المطالبين منهم بحقوقهم إلى الدويلة البارزانية ذات الهوية الكردية وفق القوانين الدولية. كما ستكون هذه الدويلة هي المنفى الذي سترسل إليه دول الجوار كل كردي يطالب بالاستقلال أو ينشط ويناضل من أجل هذا الحق ويقوم بممارسات ممنوعة في هذين البلدين، وهكذا يكون البارزاني وحلفاؤه قد دمروا حق تقرير المصير لأربعة أخماس الأمة الكردية مقابل أن يتزعم هو دويلة صغيرة ومتنازع عليها بين الأحزاب والعوائل السياسية على أراضي الخمس الكردي الآخر في أربيل وضواحيها! إن مَن يستبعد ذلك يضحك على نفسه ويجهل التاريخ وتجاربه وخاصة التجربة الأرمنية التي لم يمض عليها قرن واحد بعد. إن إقامة جمهورية ذات استقلال ذاتي في إقليم كردستان العراق، ضمن إطار الدولة العراقية الموحدة "الكونفدرالية" سينهي حتما، وتلقائيا، هذا الخطر المحدق بحق الأمة الكردية ذات الملايين الخمسة والثلاثين في الدول المجاورة الأخرى، على اعتبار أن ما حدث هو شأن عراقي داخلي وليس حلا نهائيا لمشكلة الأمة الكردية المقسمة بين أربع دول، ويحقق في الوقت نفسه طموحا إنسانيا مشروعا للأكراد العراقيين، وينهي حقبة مضطربة ومتأزمة من تاريخ العراق الحديث ويفتح صفحة أخرى قائمة على التعايش الديموقراطي والإنساني الحقيقي بين العراقيين في دولة مواطنة متحدة لا في دولة مكونات طائفية وعرقية ممزقة وتابعة للأجنبي. إنني هنا استعمل الدولة الاتحادية كترجمة للدولة "الفيدرالية" والدولة الموحدة كترجمة للدولة الكونفدرالية متفاديا في الوقت نفسه الاختلاط والتمازج بين المفردتين والاصطلاحين اللذين أثارتهما تجربة الدولة السويسرية والتي هي كونفدرالية اسما وفيدرالية واقعا وتستعمل المفردتين - المصطلحين في الأدبيات الرسمية.