فكروني ازاي.. هو انا نسيتك...
عبارة تصدح بها أم كلثوم في رائعتها "فكروني"، أراها تحضرني كلما دنا ليل الأربعاء هنا في بغداد، وما ليل الأربعاء بمختلف عن ليالي الأسبوع الأخريات، إلا أن لي فيه موعدا غير قابل للنسيان مع منبري هذا، في مساحتي التي هيأتها لي أميرة البانوراما، ودادنا جميعا، ملهمة فرحنا، وداد فرحان.
حديثي اليوم ليس رأيا أدلي به، كما أنه ينأى عن كونه مدحا أتكلفه، كذلك هو بعيد عن التقرب أو التزلف لغاية أو مقصد ما، فحديثي اليوم شكوى أبثها، أو هو هم أبوح به، أو قد يكون صيحة أطلقها بعد صمت قسري طل امده.
ولا أبالغ إن شبهت مسكي يراعي مقبلا على كتابة سطوري هذه ببيتي الدارمي الآتيين، اللذين دار فيهما حديث بين اثنين، سأل فيه الأول عن سبب قدوم الثاني اليه، والأخير بدوره رد عليه، إذ يقول الأول:
اشجابك اشأدناك شاتعبت جدمك
تسياره لو خطار لو تشكي همك؟
وكان رد الثاني:
تسياره هم خطار هم شكوى للهم
لو ما أجيك اليوم سال الدمع دم
بل قد أفوق الإثنين -السائل والمجيب- بحملي مآرب أخرى في منبري هذا، فهناك التوجس والحدس، وهناك التفاؤل والأمل، وهناك للاسف الخيبة ومرارة الخذلان.
وقطعا لكل من هذه المعطيات أسبابها ومسبباتها، ذلك أني أعيش في بلد أصر حاكموه حصره في زاوية تجبر أهله على معايشة المعاناة يوميا وتفصيلا، وبدل البحث عن حل للتغلب عليها أو تجاوزها، باتوا مرغمين على التأقلم معها على مضض كيفما تقلبت أحوالهم، ولسان حالهم يحاكي قائلة بيت الدارمي:
متحزمه بحزامين كل لطمي ويلي
أطبك نهاري وياه من يكضي ليلي
وليت ليلهم ينتهي بصبح يزيح عنهم المعاناة، فالأخيرة أضحت قرينة ملازمة للعراقيين جميعا، ولافرق عندهم بين ليل ونهار، بل تكاد عتمة النهار أغلب الأحيان تغلب سواد الليل وحلكته، لاسيما بعد عام اندلاق الحريات على صدورهم دفعة واحدة.
وقد أنذرهم سوء طالعهم بجديد أسوأ من قديم، وكأن امرأ القيس فصّل بيتا من معلقته (تفصال) للعراقيين حين أنشد:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وهذا مايعيشونه بعينه منذ أربعة عشر عاما، فلا بصيص ضوء يلوح في نهاية أفقهم السرمدي، ولا بارقة أمل تبرق في سمائهم المدلهمة، ولا بشائر خير متوقعة على مداهم البعيد فضلا عن القريب، ولا فرج بعد شدة، ولا يسر بعد عسر، ولا جير ولا بسامير.
قد أنعت بالتشاؤم، أو أرمى بحجر القنوط، ويُحكم علي بسوداوية النظرة، غير أني لا أرى حالا واقعا غير هذا الحال، وفق ما مطروح في ساحة البلاد السياسية، وما معروض في دكاكين أولي العقد والحل والحكم، وكذلك أولو الأمر والنهي وصناع القرار.
وإن أردت تأكيد ظني هذا، فالأمر أسهل من الخوض في ما يحققه ساستنا لنا، وأيسر من الإتيان بالوقائع والدلائل والشواهد لإثباته، فما يحققه ساستنا من مواقعهم، وما يجودون به في مناصبهم، ماعادت تخفى سلبياته وتداعيات العمل به على الصغير والكبير، وإن كان ثمة إنجاز يقدمونه من تحت قبب مجالسهم، فخيره وريعه وربحه في جيوبهم، أما شره وشرره، فمن نصيب المواطن المسكين، وحصته من الأذى وتردي الحال يتسلمها كاملة غير منقوصة، وإن شاء أم أبى!
فإنها تقع على أم رأسه اليوم كما كانت بالأمس، وستظل هكذا غدا وبعد غد، وقد تجسد فيه المثل القائل: (الخير للغير والزبل عالخانجي) ولما كان الكتاب (ينقري من عنوانه) فإني أرى ما رآه شاعر حين أنشد:
ليل وزوبعة وبحر هائج
لا أرى إلا السفينة تغرق