أظن الحديث -بعد أربعة عشر عاما من الإخفاق الموثق والتقصير المثبت صوتا وصورة- عن البناء والإعمار في العراق الجديد، بات حديثا أقرب الى المزحة السمجة منه الى النقاش الهادف والجاد، فعقد ونصف من السنوات العجاف، كان حريا بالحكومات التي أمسكت زمام الأمور فيها، أن تخرج بمحصلة تؤهلها لجعل البلاد جنينة من جنان الأرض، لاسيما وأن أرض البلاد مكنوزة بثروات وخيرات على سطحها وفي باطنها، بما لاتحصره أرقام ونسب مئوية ورسوم بيانية.
وكما يقول مثلنا: (حدّك ويه الچذاب لباب حوشه) فإن ذريعة تنظيم داعش أوشكت على البطلان، كما بطلت قبلها ذريعة الاحتلال الأمريكي، وبذا يكون الدرب سالكا أمام السياسيين ليطبقوا برامجهم في بناء البلد وإعمار ما تهدم فيه، فهل هذا ماسيفعلونه؟ أم هناك ذرائع أخرى ومسوغات ستستحدث بكبسة زر (Update) يتصدرون بها دفوعاتهم عن تقصيرهم المتعمد وغير المتعمد بأداء واجباتهم المهنية والوظيفية والوطنية!.
إن من المؤكد مقابل الانتصارات العسكرية التي تحققت مؤخرا، أن يكون هناك بناء مدني وإداري متميز، أداءً وسرعة وكما ونوعا في المدن المحررة، فضلا عن الأخريات التي لم تطأها أقدام الغزو والاحتلال الأخير، لكن كما يقول مثلنا أيضا: (الكتاب يبين من عنوانه) إذ أن البطء والتلكؤ الذي اعترى عمليات البناء والإعمار سابقا، سيكون السمة الواضحة للقادم من العمليات، إذ ما فتئ السير في الإعمار والبناء سلحفاتيا، ومازلنا نعاني من الكبوات والإخفاقات في مؤسسات الدولة التنفيذية، والأدلة على هذا كثيرة وبمتناول أي فرد منا، إذ بمجرد سماع نشرة الأخبار المحلية، يتضح جليا أن مفاصل البلد تشكو الانجماد في الإنجازات على صعيد البناء، وهو مايراه المواطن بأم عينه على أرض الواقع، فيما يستمع أحيانا الى تصريحات مغايرة تماما، تعكس صورة رائعة يتمنى ان تكون صادقة يوما ما في بلده.
هناك مقولة مفادها؛ "كذب المنجمون وان صدقوا". هي مقولة لايختلف على صدقها اثنان، فالغيب بعلم واحد أحد، وأحداث الغد لايتمكن أحدنا من تخمينها إلا مصادفة. لكن ما يجري من أحداث في العراق اليوم، أظنه يشبه الى حد كبير فيلما رآه أغلبنا مرات عديدة، الى ان حفظ السيناريو والحوار كما يحفظ أنشودة يابط يابط، لدرجة تمكنه من تأكيد حدسه وتنجيمه لما تؤول اليه الأحداث، وكأنها أحداث فلم (تايتنك) الذي حفظ وقائعه عن ظهر قلب بالتفصيل الممل، ولو طلب منه سرد ماسيحدث لكان ذلك أسهل اليه من شربة ماء.
فلو استمعنا الى تصريحات الوزراء والمسؤولين في مؤسسات الدولة التنفيذية التي تحتك بشكل مباشر مع المواطن في توفير الخدمات والبنى التحتية والأمان وباقي حقوقه، لوجدنا انها مجموعة كلمات وجمل تتكرر في لقاءات واستضافات، تتخللها وعود وارقام هي نفسها قبل أشهر قيلت في الفضائية (س) وبعد أشهر في قناة (ص) ثم أدلى بها ذات المسؤول في اجتماع أو مؤتمر لأحد المجالس، او في لقاء مع رؤساء عشائر أو قبائل في محافظة جنوبية تارة، وتارة شمالية وشرقية وغربية.
وكلها COPY PASTE الأمر الذي عزز ملكة العراقي في استقراء احداث المستقبل، لاسيما أن أغلب الأحداث لا تسره، كما أن المتسببين فيها يجترون الأسباب ذاتها، لتقيأوها دون ضجر أو ملل من جديد، ما يذكرني بابيات قصيدة للشاعر خلدون جاويد منها قوله:
في كل يوم فتنـة ودسيسـة
حرب يفجرهـا زعيم قاتل
هذا العراق سفينة مسروقة
حاقت براكـين بها وزلازل
هو منذ تموز المشاعل ظلمة
سوداء ليل دامس متواصل
أما قتيـل شـعبنا او هـارب
متشرد او ارمـل او ثاكـل
فهنا عميـل ضالـع متـآمر
وهناك وغد حاقد متحامل
أوليس هذا عين ماحدث ومازال يحدث طيلة السنوات الأربعة عشر الماضية؟ ومن يعلم ما المخفي في قادم الأيام؟! إذ ما إن نهضنا من كبوة مسؤول أخل بواجباته، إلا كبونا في محنة مسؤول او قائد آخر أرجع خطى البناء التي سار بها البلد الى المربع الاول كما يحلو لهم تسميته. فالأمل كل الامل ان لايكون ثمة مربع أدنى من المربع الاول ليقذفوا بنا فيه، إذ ينطلق سياسيونا بأحاديثهم عن المربع الأول حال مسكهم المايكروفون، فبالمربع الأول يهددون، وبالمربع الأول يذكّرون، وبالمربع الأول يتوعدون، وبالمربع الأول أيضا يتشمتون، وكأن المواطن العراقي وحده دون قياداته وساسة بلده تدور عليه الدوائر، وتتربع بساحته المربعات، وعليه وحده تهوي معاول الهدم، وعلى رأسه فقط تطرق مطارق فشل حاكميه وجلاديه وسجانيه وأولي أمره.