تعلو بين الحين والآخر أصوات سياسيين وناطقين باسم كتل وأحزاب ولجان برلمانية، وكذلك مسؤولون ووجهاء في البلد، مطالبين بإقرار مشاريع أو قوانين سبق لها ان طرحت على طاولة مجلس النواب، إلا أنها أجلت من فصل تشريعي الى ثانٍ، ومنه الى ثالث ثم عاشر الى أن أدرجت في رفوف عليا، فعلاها التراب وطواها النسيان، وباتت قوتا لـ (دودة الأرض).
من هذه المشاريع مشروع قانون يمنع مزدوجي الجنسية من تولي مناصب حكومية، والمنع يشمل المناصب السيادية من وزراء ونواب ومحافظين وسفراء وقادة عسكريين، ويخيّر القانون مزدوجي الجنسية بالتخلي عن مناصبهم أو جنسياتهم المكتسبة.
ومشروع هذا القانون -كباقي المشاريع- يصل عادة إلى البرلمان، ومن المفترض أن يحال الى اللجنة القانونية حال وصوله، وبعد دراسته يحال الى هيئة الرئاسة لقراءته، ومن ثم التصويت عليه.
وكالمعتاد ذهبت فيه الكتل والأحزاب مذاهب ومناحل ومللا وفق مصالحها، وراحت جميعها تفصله على المقاس الذي يلائمها، فاعتمدوا الحلية والشرعية، والجواز وعدمه، ونفاذ الصلاحية ونفادها، وألفَوا في قراءاتهم هذا المشروع بالذات "كل تميمة لاتنفع". فمنهم من عده مخالفا للدستور، ومنهم من عده مطابقا له، ولكل حججه وأسبابه. فمن قال بمخالفته، اعتمد على ان الدستور سمح للعراقي بازدواج الجنسية، ماعدا المناصب السيادية المتمثلة بالرئاسات الثلاث والأمنية كوزيري الداخلية والدفاع. ومن قال بموافقته الدستور، فقد تذرع بأن عدداً كبيراً من حاملي الجنسية المزدوجة هم معارضون سابقون، كانوا قد هربوا من ظلم النظام السابق الى دول منحتهم الإقامة ومن ثم الجنسية، ومن غير المنصف استبعاد هؤلاء.
إن الدستور العراقي وقانون الجنسية العراقية، أجازا للمواطن العراقي حيازة جنسية بلد آخر، إذ أن أعداد العراقيين الذين فروا من وطنهم في الربع الأخير من القرن المنصرم، بلغت رقما لايستهان به، ومنهم نسبة عالية من ذوي الكفاءات والشهادات العليا والتخصصات النادرة عالميا، ومنهم من تبوأ مناصب مرموقة في تلكم البلدان، وأغلبهم تصاهر وتناسب في زيجات وعلاقات اجتماعية، مكونين أسرا شق أبناؤها طريقهم في مجالات الدراسة، أو ارتبطوا بعقود عمل وشراكات في شتى المجالات. أما فيما يخص من عاد الى أحضان بلده العراق، وشغل منصبا رئاسيا او وزاريا أو خاصا او حتى موظفا بسيطا فيه، فمن الأولى بان يكون ولاؤه لبلده الأم، حتى لو كان يحمل جنسيات عشرات البلدان غيره، لاكما حصل في الماضي القريب مع وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي، ووزير الدفاع حازم الشعلان، ووزير التجارة عبد الفلاح السوداني، وغيرهم كثير من الذين بان انتماؤهم وولاؤهم على حقيقته من جهة، ومن جهة أخرى بانت نياتهم ومقاصدهم من تشبثهم بتلابيب المناصب، واستقتالهم للوصول اليها، وظهرت جلية مآربهم وأهدافهم من سعيهم في تسنم مراكز التسلط في المجلس التنفيذي، وهي طبعا عكس ماكانوا يدعون ويقولون ويتقولون ويتقيأون مرارا وتكرارا، فخدمة المواطن العزيز، وتوفير العيش الرغيد للعائلة العراقية التي قالوا أنها تسكن شغاف قلوبهم، والحفاظ على المال العام كواجب مقدس على حد قولهم، كل هذه الذرائع كانت على ألسنتهم في كل خطاب ولقاء وبيان يلقونه ويجرونه ويصدرونه.
لقد اتكأ هؤلاء قبل مسكهم زمام الأمور في مؤسسات الدولة، على وطنهم الثاني الذي منحهم جنسيته، وبحكم الولاء والانتماء صار هو الوطن الأول، والعراق الذي منحهم الجنسية الأولى، انحدر في نظرهم وحساباتهم في المواطنة الى المرتبة الثانية او الثالثة، بل العاشرة، وصارت التضحية به أولى الخطوات وأيسر الخيارات في حال انحسرت خياراتهم بين جنسيته وجنسية البلد الآخر، وشتان طبعا بينهم وبين ماقاله أحمد شوقي:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
فكانوا بحق أول البياعين، واختاروا التفريط به أرضا وشعبا، مقابل ماسال عليه لعابهم من خيراته وثرواته.
الحكومة إذن، مطالبة بالإسراع في البت بقانون مزدوجي الجنسية، بصيغته التي تخدم البلاد وملايين العباد، وأن تفعّله وتأخذه على محمل الجد تشريعا وتطبيقا، وأن تستبعد ذوي المناصب العليا من مواقعهم الحساسة في مؤسسات الدولة، وان تلاحق من نفذ من السراق خارج حدود الوطن، عن طريق الإنتربول أينما حلوا في بقاع الأرض، وانتزاع ماسلبوه من حق العراقيين العام، وإنزال الحكم العادل بحقهم، وأن لاتدع الجنسيات الهجينة حاجزا أمام إحقاق الحق وفرض سلطة القانون، ليعتبر بهم المسؤولون الجدد من حملة الجنسيات الأخرى، وأصحاب الولاءات والإنتماءات الثانية، فعلى مابدا أن بازدواج الجنسية تزدوج الشخصية أيضا، وكفى العراق نهبا وسلبا من أصدقائه وأبنائه، فحسب أعدائه وخصومه القيام بهذا على أتم وجه.