مازال الفساد في عراقنا الجديد سيد المصائب التي ورث العراقيون منها الكثير، واستجد في حياتهم منها بعد عام 2003 الأكثر، أما محاربته والتصدي له، فالحديث عنها لايشفي غليل أي فرد يتمتع بأدنى حد من حدود المواطنة.
إذ لطالما صالت وجالت (يد من حديد) كان قد توعد بها رئيس الوزراء الحالي أسوة بمن سبقه، وفي حقيقة الأمر، كان وعيدهما مغازلة بيد من حرير، أما أقسى العقوبات بحق الفاسدين، فقد استحالت الى دغدغة وطبطبة وتربيت على الأكتاف، لم تولد إلا مزيدا من الفسادات إثر توالد مزيد من الفاسدين.
إزاء هذا التهاون باليد الحنونة الرقيقة مع المفسدين، هناك أخرى حديدية موجهة الى المواطن لصفعه بالصفعة القاضية، كان نصيبه منها وافرا متواترا، زاد من تعاسته، لاسيما وقد طالت عليه فترة نقاهته من مرضه العضال بعد زوال المسبب عام 2003.
فقفاز الحرير إذن، كان أداة التهديد التي نفذت بحق الفاسدين الذين عن صلاحهم ساهون..!
والغريب في ساحتنا العراقية على الصعد كافة، أن مامن مسؤول او سياسي أو زعيم كتلة او حزب في العراق، إلا وأبدى شكواه أمام الملأ من الفساد الذي نخر البلاد، بعد أن استشرى في مفاصلها ومخر جسدها كما تمخر السفينة لج البحر، إذ صار حديث الساسة والمسؤولين وشغلهم الشاغل، هو إلصاق تهم الفساد بأصنافه ودرجاته بزملائهم ورفاقهم في المأدبة، ولايفوت الأخيرين القيام بالمثل، ورد الصاع بصاعين والصاعين بثلاثة، فجسدوا بهذا مثلنا القائل: (غراب يكول لغراب وجهك اسود).
وبين ما أحيل الى هيئة النزاهة من ملفات فساد، وبين ماموجود على أرض الواقع وتحتها وفي دهاليزها، يتضح جليا أن السرقات لها أرباب تحميها، ولها أوصياء يحرسونها، ولعل لها أولياء أيضا يعمدونها ويحللونها ويشرعونها، فصار الفساد بتعويذاتهم سنة متبعة ومصحفا وقبلة ودينا.
وليت الأمر ياخذ مجراه على يد العدالة، وليت الملفات تأخذ دورها وفق القانون لمحاسبة المذنبين والمتورطين، وإعادة مانهبوه الى أصحابه، لاسيما أن عدد أصحابه يربو على الثلاثين مليون شخص.
ومن غير المعقول أن فسادا بالحجم الذي نسمع عنه ونقرأه ونلمسه، يحصل في بلد الحضارات ومهبط الأنبياء، ومرقد الأولياء والأتقياء.
وإذا كان هذا حاصلا بالفعل، ماالاجراءات المتخذة إزاءه؟ وكيف جوبه المفسدون أبطال هذه الملفات؟
إن الإجابة على هذي التساؤلات لم تولد بعد، إذ الطريق أمام المفسدين معبّدة من دون موانع او معرقلات، بل هي سالكة وغاية في السهولة والسلاسة، فالسارق والسارقة لهما مطلق الحريات، وطريق الفساد مفروش بالورود لمن يطأه وبلا حساب ولا عقاب، بل قد يثاب على مايفسد وما يفعل بأموال البلاد وحقوق العباد. واللافت للنظر والاستغراب أن الملفات التي تحال الى هيئة النزاهة هي ملفات (خردة) من (الحجم الصغير) إن صح التعبير، إذ هناك (جوه العبا) ملفات أعظم هولا وأكبر حجما بكثير، يشار اليها من بعيد لأغراض إثبات الوجود، وكأن النزاهة تحمحم وتقول من باب ذر الرماد على العيون:
"نحن هنا"!.
ولو سلمنا أن كل ملف من الملفات أخذ طريقه في التحقيق والتعقيب، فهل يفضي هذا الى تحديد الشخوص المذنبين وعرضهم أمام الملأ، ووضعهم تحت طائلة القانون وتطبيق مواده وبنوده عليهم كل بجريرته؟
وهل شعار؛ (القانون فوق الجميع) هو فعلا شعار مرفوع ومفعل ومدعم ويخضع لسلطته الكبير قبل الصغير، والمسؤول قبل الموظف البسيط؟.
هو دور يقع بالدرجة الأولى على رؤوس الحكم في البلد، وعليهم وضع حد صارم للفاسدين فيه من دون هوادة او تهاون معهم جميعا، إذ من المؤكد ان الفسادات تبدأ صغيرة ثم تكبر حين تجد الأرض الخصبة، والحضن الدافئ الذي يرعاها ويغذيها لتترعرع وتطول يدها، وتطال من السرقات مازاد ثمنه غير آبهة بوزنه، ذلك أن لها (ظهر) يحمل من الأثقال أكبرها، ولها (ظهير) يهادن الرقيب ويحمي السارقين من العقاب، بما يبعد الإصلاح ويستقطب الفساد والفاسدين الذين هم عن صلاحهم ساهون.