ليست بعيدة سنوات الحرب -بل الحروب- التي دخلها العراق، بقيادة فرد لم يكن سويا في طموحاته ولاوطنيا في نواياه ولامسالما بطبيعته، ولم يكن يعرف غير طريق الغزوات والـ (كونات)، وقد لازم منظر العنف والدموية والسادية سياسته ونهجه في التعامل مع شرائح المجتمع كلها، والحق أنه كان عادلا ومنصفا في توزيع القتل والنفي والتعذيب والاضطهاد على العراقيين جميعهم، بعد أن فتح أبواب تسلطه وعنجهيته وبطشه على مصاريعها أمامهم، وبات ولوجهم فيها قسريا وقمعيا، ولم ينجُ من سطوته سني ولاشيعي ولاكردي ولاتركماني ولا باقي مكونات المجتمع، وقطعا لم يفته الإبقاء على أبواب قليلة تنفس من خلالها خاصته وذووه الصعداء.
ومع هذه الفئة وتلك الفئات كانت الوحشية في التعامل، والنار والحديد والقيود والكبول وإثارة القلق والرعب، هي السمة البارزة في صورة الساحة العراقية إبان حكمه.
ولا يغيب عنا كيف ألزم إدارات المدارس الإبتدائية والثانوبة بإطلاق العيارات النارية من سلاح الـ (كلاشنكوف) في ساحاتها صبيحة كل يوم خميس أثناء تأدية مراسيم رفع العلم، وقالها بالحرف الواحد:
كي يتعلم الطفل العراقي على صوت الـ (طك).
ولاأظن أن الشعور بالغصة قد اختفى منا عند مرورنا على مرآبي (النهضة) و (العلاوي) هذين المرآبين اللذين مازالا يحملان على أرصفتهما ومواقف الحافلات فيهما، ذكرى توديع أهلنا وأحبتنا قسرا عند التحاقنا الى جبهات قتال فُرض علينا، لالشيء إلا لنزوة أحمق مسيس، او لعله سياسي أحمق. وكم من أخ وزوج وابن وأب حمل حقيبته واستقل سيارة هناك ولم يعد الى اليوم. كانت جراحنا عميقة تئن بخفية تحت سوط الجلاد، بفعل الجور والظلم والكبت وتكميم الأفواه.
اليوم وبعد ان انزاحت تلك الحقبة بشخوصها وأشباحها وشياطينها، لاأظن أحدا من العراقيين يريد الرجوع اليها بعد ما باتت الحكومة منتخبة، ومجالس الدولة من صنع المواطن واختياره، وبعد ان اندلقت عليه الحريات بأصنافها وألوانها، أولها حرية التعبير عن الرأي، فبات صوته يعلو مادام الحق مطلبه، ودخل معترك الحياة العلمية والتكنولوجية مع أقرانه من بلدان العالم.
فمن غير المعقول حتما أن يتشوق سوي لبيب واعٍ الى تلك الحقبة، بعد أن انطوت وولى قائدها الأوحد الى حيث مكانه الصحيح.
إلا أن الأجواء لم تصحُ كما كان يتمناها العراقيون، إذ هب من كل حدب وصوب، وأتى من كل فج عميق متحينو الفرص، وصائدو الغفلة، وممتهنو السحت، وآكلو لحم أخيهم ميتا، فكانت بهم تشكيلات كتل وأحزاب، ضمت من ضمت من اللاهثين وراء الدولار، او المنفذين لأجندات كانوا قد كلفوا بإتمامها، او آخرين ركبوا موجة هذا الحزب أو تلك الكتلة، لظنهم بها خيرا وإيمانهم بأنها المنفذ الذي يعينهم على العيش المرفه والمنعم، فصارت بمرور السنين وبفضل التحاصص وبزيادة النيات السيئة وبتحصيل حاصل؛ حكومات ومؤسسات، وصارت مصالح العراقيين تعوم في لج بحر متلاطم الأمواج، يتسيدها حيتان لهم الأمر والنهي، بالقوة والغلبة التي تحققت لهم بفعل الذين تعاونوا على الإثم والعدوان، بعد أن تركوا التعاون على البر والتقوى.
وبهؤلاء وبغيرهم من محترفي اللصوصية والقرصنة، ساد البحر استتباب واستقرار ولكن، هو استقرار في حضيض الفساد.
وعلى هذا المنوال يسير البلد الى حيث هوة سحيقة القرار، لاأظنها أقل انحدارا وخطورة مما كان عليه العراق أيام نظام صدام.
فإذا كان الخلاص من السابق على يد أمريكا والغرب عام 2003، فعلى أي يد ياترى! سيكون الخلاص من اللاحق؟
وكما تدين تدان.