الإهداء
الى ذكرى والدي
الى الهاربين من الحروب والموت
أصدقائي اللاجئين والمهاجرين
شكر وتقدير
سرت بي رغبة كبيرة لتدوين حكايتي حال وصولي الى أستراليا عام 2000، ولأسباب شتى أجّلت تدوينها عاماً بعد آخر، منها أنَّي لم استقر في أستراليا تماماً، الا بعد أن انتقلت للعمل والسكن في مزرعتي الريفية الصغيرة عام 2010.
ليس سرَّاً حين أقول إنني لم يسبق أن مارست الكتابة التي تخرج بصورة كتاب، لكنّي أزعم أنّني قارئ جيد ومتابع للأدب بصورة عامة، ومع الإمكانية الاستثنائية التي اتاحها فضاء "الفيسبوك" للجميع تقريباً من حرية القول والكتابة، شرعت في نشر مقطع قصير عن اليوم الأوّل من رحلتي خارج العراق، فاستحسنه كثير من الأصدقاء والمعارف، لكن ما شجعني تحديداً على الاستمرار هو صديقي الشاعر المبدع الدكتور أفضل فاضل الذي واكب تفاصيل الحكاية.. شكراً افضل.
رأي الشاعر الكبير يحيى السماوي يهمّني كثيراً، وما أن نلتقي حتى يعيد القول عليّ وبصيغة الرجاء أحياناً أن أكتب حكايتي ما دمت أملك أدواتها..
شكراً أستاذنا الكبير.
مع زحمة وصخب الحياة هنا، خاصّة لطبيب أرياف، يصبح من الصعوبة بمكان أن تجد وقتاً للكتابة أو الاسترخاء، لكن ذلك تسنّى لي بجهود وحرص زوجتي دنيا.. شكراً أم دانيال.
أن تكون هاوياً وتكتب، فذلك أمر جيد، لكن أن تطبع وتنشر ما تكتب، فذلك عمل آخر وما كان له ان يكون بدون أخي ورفيقي فاضل النشمي.. شكراً فاضل.
أن يخرج الكتاب سليماً معافى من أخطاء وهَنَات الكتابة، فذلك لا يتم من غير جهد الدكتور وليد فرحان.. شكراً وليد.
بعد أن اكتملت صورة الكتاب وعناوينه بحثت عمن يؤطرها ويقدّمها لأهلي وأصدقائي وقرّائي، فكان يراع وفن الأستاذ والكاتب محمد غازي الأخرس..
شكرا أبا الطيب.
والشكر موصول الى الدكتور فرحان عمران والشاعر رعد كريم والإعلاميين قيس حسن واحمد الهاشم ولكلّ من أعانني على إخراج حكايتي.
مذكرات بلحية كثة
تقديم: محمد غازي الأخرس
في التسعينيات، حدث أن راجت كتب المذكرات التي شرع يكتبها قادة شيوعيون وبعثيون ابتداءً من نهاية الثمانينات. كان الأمر مثل موجة عارمة تجهد لاستعادة التاريخ وروايته من منظورات متعددة، وبوجهات نظر تتنوع بتنوع الفاعلين.
أقول الفاعلين وأنا أعني الزعماء من محركي الاحداث الذين نعرفهم ونتداول كتبهم وسيرهم وكأنها الجهة الوحيدة الشرعية التي يحق لها سرد ما جرى.
في تلك الايام، كنت سألت أبي، وكان شيوعيا عتيقا، مرة وقلت له - لماذا لا تكتب مذكراتك؟ وهنا ارتعب أو كاد ثم قال باستنكار شديد- ومن أنا حتى أروي مذكراتي، لست قائداً شيوعياً. أنما أنا فرد من القاعدة العريضة، بسيط ولا أعرف أي سر عظيم.
كانت تلك رؤية تقليدية طبعاً، رؤية تنطلق من نسق يقوم على أن القاعدة لا تصنع الأحداث إلا وفق ما يريده القادة وهذا شيء خاطئ تماما، بمعنى أن القاعدة لها سرديتها وعلينا دائما قراءتها بموازاة سردية القادة. حينها حاولت إقناعه بالقول إن مجرد كونه من القاعدة يمكن أن يعطي ذكرياته أهمية ما. لا على أساس مخالفة السائد من المذكرات، بل على أساس أننا يمكن أن نلمس انفعالات ونقرأ أفكار المجموع بلسان فرد منه.
لا عليكم من نوع الحكاية وإلى أي فئة أو شريحة تحيل، بل انتبهوا إلى أن مثل هذه السرود تحوز شرعية لا تقل قوة ورسوخا من شرعية النخب، وهذه الفكرة الجوهرية فهمتها الثقافات الأوربية جيدا، لهذا شاع عندهم جنس المذكرات والسير الذاتية بوصفه جنسا أدبيا يمكن لأي كان ممارسته بشرط امتلاك ناصية اللغة ومعايير الجنس الأدبي السردية.
هذا الأمر لم يوجد في ثقافتنا العربية للأسف إلّا مؤخراً وعلى أضيق نطاق. ولدينا هنا أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة لانتباهنا له وممارستنا إياه. والمقصود دائما هو كتابة المذكرات الشخصية من قبل كتاب ينتمون لشرائح مختلفة ولا يشترط بأصحابها أن يكونوا من المشاهير. أما الأسباب المباشرة فتعود إلى الترجمات التي بدأت تغزو مكتبتنا العربية لأنماط من السرود لا عهد لنا بها سابقا. ومنها ما يندرج في هذا الإطار، أي المذكرات والسير الشخصية.
وأما الأسباب غير المباشرة فهي الأهم بالتأكيد، ويعود أبرزها إلى مرورنا، في مرحلة ما بعد دولة صدام، بحقبة يمكن تسميتها بـ"حقبة البوح الذاتي" كردة فعل على عقود من كبت حريات التعبير.
والملاحظ أن هذا البوح ارتبط بسياق ثقافي واجتماعي جديد أعطى للمهمشين موقعا أتاح لهم قول ما لم يتمكنوا من قوله. الأمر يشبه استعادة لسان مقطوع واستخدامه في كلام حرمت منه شريحة كاملة.
ما علاقة هذا كله بـ"عشرون شتاءً" الذي بين أيدينا؟
العلاقة جد واضحة وجديرة بالتأمل. فالطبيب حمودي نشمي يسرد لنا هنا قصته الذاتية المسكوت عنها، أو التي سكت عنها طويلا، وبأسلوب أدبي يشاكل الظروف التي يحكي عنها. أي أن ثمّة شيئا من الحزن الشفيف والخيبة السوداء تحيط بنا من أول صفحة في المذكرات إلى آخر سطر فيها.
وكيف لا تخيم الخيبة والرجل يسرد فصولا عن ذات مهيمن عليها ومقادة لمصيرها من قبل سلطة رهيبة، سلطة تنبث من السياسة إلى الاقتصاد وإلى المجتمع، ثم لا تنتهي حتى يأخذ الطبيب الكاتب طريقه إلى المنفى الإجباري بحثا عن الأمان وتحقيق ما عجز عن تحقيقه في بلاده.
كل ذلك يُسرد بلغة صافية، غير عسيرة، ولا تكلف فيها. والأهم من هذا، أن الرجل يقدم سرديته نيابة عمن عجز عن تقديمها.
نعني الشريحة الكاملة التي مرت بما مر به من تغرب وضياع للأحلام في عراق الماضي. الآن، هل ثمة فوائد ترجى من مدونات كهذه؟ نعم، هناك فوائد كبرى تحتاج وقفات أطول من هذه. عدا الجماليات التي تشع من كتب سيرية كهذه، يمكن اعتبارها كنزاً للباحثين الثقافيين وحتى المؤرخين والسوسيولوجيين لتوفرها على ظواهر وأفكار وأنساق من الصعب العثور عليها في المدونات الأخرى.
عدا هذا كله، فإن كتباً يكتبها أطباء ومهندسون وعمال وجنود قدامى سوف تسهم في تفكيك الأوهام القديمة التي آمنا بها، وأبرزها أنه لا يحق سوى للقادة من أصحاب اللحى الجيفارية أن يسردوا تجاربهم، نتوهم ذلك رغم أن طبيبا مثل حمودي نشمي يمكن أن يطلق لحيته أيضا لدواع الهروب من الجحيم:"
قضيت يوماً كاملاً في وداع صامت لأهلي، زرت بيت عمي، ودعت اختي التي لاحظت اطلاق لحيتي، وذلك ترتيب جرى مع المهرب كريم الذي طلب منا أن نطلق لحانا ونجلب معنا دشداشة قديمة كجزء من عدّة عبور الحدود. بدوت مهموماً لأختي مع لحيتي الكثة ومع ذلك قلت: أنا بخير".
نعم، "عشرون شتاءً" يثبت شيئا آخر. إنه نص يبدو متنكراً بلحية في البداية، لكنه يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة، يشرع في التخفف من لحيته نيابة عنا جميعاً.
"أولئك الذين لا يتذكرون الماضي تحلُّ عليهم لعنة تكراره".
الفيلسوف الأمريكي جورج سانتيانا
"يموتُ الجنودُ مراراً .. ولا يعلمون إلى الآن من كان منتصراً ! ومصادفةً، عاش بعضُ الرواة وقالوا: لو انتصر الآخرون على الآخرين.. لكانت لتاريخنا البشري عناوينُ أُخرى ".
محمود درويش
"عليك أن تعلّم أولادك أنّ التراب الذي تدوس عليه أقدامهم هو رماد أجدادهم. قل لأولادك أن الأرض مُفعَمة بحياة أقاربنا، كي يحترموها.
علم أولادك ما علمناه لأولادنا، الأرض هي أمّنا. مصير الأرض كمصير أولادها".
الزعيم الهندي سياتل
بيـن شتاءيـن
شتاء عام 1996، أجلس في غرفة بائسة ليس فيها غير خمسة كراسي ومنضدة قذرة وتلفاز بالكاد يشاهد المرء ما يُعرض عليه من أخبار الرئيس القائد، تسمّى (مطعم الضباط) في وحدة ميدان طبية في محافظة الناصرية. اتناول عشاءً بائساً وفقيراً، يعرضُ تلفزيون العراق الرسمي اجتماعاً لأعضاء الحكومة برئاسة القائد المؤمن! تتجوّل الكاميرا على وجوه فظّة بتعابير قاسية وشوارب كثّة غليظة مصبوغة بطريقه مُضحكة، يتحدثون عن الشرف والكرامة وحكمة القائد، أصابني غثيان ورغبة بالتقيؤ، قفزت من الكرسي الى خارج الغرفة.
اللعنة عليكم جميعاً، لن أعيش في وطن أنتم به، لكن الى أين، وأي أفق سيأخذني وأي بلاد ستؤويني؟ العيش مع هؤلاء مرّ ومذل، المؤّكد أنَّ العيش من دونهم أقلّ ألماً وأكثر سعادة، كان الخيار الوحيد الممكن لتخفيف حدّة المرارة هو التّوجه الى إيران، حيث لا تبعد حدودها سوى كيلومترات محدودة عن الناصرية!
قرار الهرب وإن بدا نهائياً الا أنّه جمّد أحاسيسي ووضعني في مفترق طرق شائكة وكوابيس من الخوف والتّردّد مقابل إشراقة أمل غامضة. تلبّستني رغبة الهروب مثل متصوّف يخترق النار ليحيا من جديد.
أخيرا صمّمت على الهروب الى إيران.. هكذا !
فاتحت صديقا من الناصرية سرّاً بالموضوع، فقال:إنَّ له قريبا يمارس هذا النوع من الأعمال ومن الممكن أن يهربني للحدود المتاخمة مقابل مبلغ بسيط.
قلت له: لنذهب له الآن.
انطلقنا بعد دقائق الى حيث يسكن قريبه، بدا رجلاً بسيطاً وفقيراً، لكنّه أكد أنَّ له كثيراً من المعارف والقضية سهلة جدَاً! لم تكن سهلة أبداً صديقي.
شتاء 2016، أجلس في صالة أنيقة، في مزرعتي القريبة من مستوصف نظيف أعمل به في مدينة منم جنوب أستراليا، أشاهد تلفازاً كبيراً وحديثاً يعرض ما يدور في العراق، فيرنّ هاتفي النقال..
دررن.. دررن..
الو شلونك حمودي؟
عفوا منو حضرتك؟
أنا فلان صديقك في وحدة الميدان الطبية، أريد أن أهرب من العراق حيث لا كرامة لإنسان ولا هيبة لدولة!
قلتُ: مو سهلة صديقي!
باتصال صديقي، كان قد مضى عشرون عاماً بالتمام والكمال على رحلة هروبي الشّاقة من العراق، وخلال تلك الأيام الطويلة بأتراحها وأفراحها تسير خطوط حكايتي المتواضعة هذه.
طبيب نفقة!
أنهيت المرحلة الأخيرة من كلية الطب في جامعة بغداد في تموز عام 1992، أي بعد عام واحد على انتهاء حرب الكويت في آذار 1991، أطلقت تسمّية (عاصفة الصحراء) على عملياتها العسكرية وكانت فعلا كذلك، فتّتت ما كان نواة دولة في العراق وعصفت به بشكل مريع ووحشي، ربما كانت آثار الدمار في النفوس والأرواح أكثر هولاً بفعل "حصار" ما بعد العاصفة، كان همّ الناس البقاء على قيد الحياة وحفظ الكرامة.
درست الطب على نفقة وزارة الدفاع، ويعني ذلك أنني اتقاضى مرتباً شهرياً وملتزماً بعقد مع الوزارة على أن أخدم طبيباً عسكرياً بعد التخرج.
لا أحبّ العسكر عموماً، لكن فقر الحال ورغبتي في رفع الأعباء المعيشية عن عائلتي، الى جانب حرصي على دراسة الطب والا أترك الفقر يحول دون تحقيق حلمي، أسباب مجتمعة دفعتني للتطوّع. كان مقدار الراتب الذي يتقاضاه الطلبة الدارسين على نفقة وزارة الدفاع 70 ديناراً (نحو 200 دولار).
حتى المرحلة الخامسة من مراحل دراسة الطب الست، أي قبل حرب الكويت آب 1990، بأكثر من سنة، كان مبلغ الراتب جيّداً ويكفي الطالب، أما بعد الحرب والحصار فقد تغيّرت الأمور مع تدهور سعر صرف الدينار.
ارتفع مبلغ الراتب ليصل الى 150 ديناراً، لكن قيمته الشرائية تراجعت لتعادل 10 دولارات فقط! تدهورت قيمة الدينار وأصبح الراتب بالكاد يكفي أجور النقل وبعض لوازم الاستنساخ والكتب الطبية، وكانت وجبة (يابسة) من الرّز والفاصوليا في نادي الكلية ليست في متناول اليد معظم الشهر.
كذلك، أضحت عملية شراء قميص جديد مشروعاً يجب التخطيط له قبل أشهر من التنفيذ، ولن تتم أحياناً!
أحد زملاء الدراسة، اعتاد على سرقة (تكسي) أبيه، يعمل بها ساعات قليلة، لتوفير مصروفه، زميل آخر استجار بمهنة (عمال البناء) يومي الخميس والجمعة، لتدبير شؤونه المالية وهو في المرحلة السادسة من كلية الطب!
لم استطع شراء صورة التخرّج الجماعية رغم رغبتي الملحّة بها، فثمنها أكبر من قدرتي الشرائية.
أنهيت رفقة أصدقاء مميزين 6 سنوات من العمل والجدّ المتواصل، اجتزت مئات الامتحانات الشّاقة بنجاح، سهرت ليالي كثيرة، حرمت من كثير من المتع البريئة مثل لعبة كرة القدم أو زيارة صديق كي أكون طبيباً، أملا بمستقبل أفضل وأجمل، لكن ذلك لم يكن ليحصل دون مشقّة وصعاب جمّة!
لا أملك مزاجاً سوداوياً أو متشائماً، لكن استقراء الأوضاع عموماً يشي بانَّ المعاناة الحقيقية تبدأ بعد التّخرّج والحصول على شهادة، توقعت أياماً سوداء مقبلة في ظل الخراب والفقر المخيف، خاصّة مع اهتمام الحكومة بإدامة ذلك أكثر من محاولة إصلاحه.
كانت شروط التعاقد مع وزارة الدفاع تقتضي أن يلتحق الطلبة بعد تخرجهم من كلية الطب أو أي كلية أخرى خاصة العلمية بدورة تدريبية للحصول على رتبة ضابط ملازم ثان في الجيش، وتم "سوقنا" بعد التّخرّج الى الكلية العسكرية الثانية في خان بني سعد.
أمضينا 9 أشهر في التدريب ودراسة العلوم العسكرية كما يُفترض، قضينا الأشهر بساحة العرضات الإسمنتية بلا ظل شجرة، نهرول ونزحف ونسمع كلمات طعن شخصية، كانت كلمة (مخربطين) مثلا شائعة وتجري بيسر على ألسن الضباط والعرفاء المدربين، أما كلمة ( قشمر) فهي بمثابة صباح الخير!
شاكسناً كثيراً، تمرّدنا بما نستطيع، وتلك طريقتنا الوحيدة في الرفض والاعتراض على ما نشعر به من هوان وإذلال.
كان التمارض، إحدى الحيل المتّبعة للحصول على إجازة مرضية، اتذكر أنَّ الزميل علي عبد الخضر الذي تمتّع بظرافة استثنائية، حبك قصة "الزائدة الدودية"، فكونه طبيباً يساعد على هذا النوع من التحايل. أُرسل الى مستشفى الرشيد العسكري وحصل على إجازة أسبوعين، لكنّه لم يعد للكلية العسكرية بعد ذلك؟! تسرّب بعض الزملاء ولم يلتحقوا بعد الإجازة الأسبوعية، كان الضبط العسكري ليس على أشدّه بالمعنى القانوني، ثمة نوع من التهاون، بحيث لم تتخذ أي إجراءات بالفصل او السجن لأي من المتدربين، او ضباط المستقبل المفترضين.
تابعونا مع الحلقة التالية من 20 شتاء.