لا يستبد الجزع بالأشخاص المختمرة تجاربهم ما لم يكرر الزمن تسديد رمياته الموجعة الى عمق صاحب التجربة، كما لا يمكن للمختمرة تجربته ان يشهر تذمره من تكرار خساراته من غير ان يرفع اطار المباشرة في الاعلان عن هذا التذمر ويتجه لتشفير بعض اضلاع صندوق خساراته، وهذا الموضوع ينطبق تماماً على الشاعر الدافئ كاظم غيلان، هذا الإنسان الذي امتلأ قلبه ورأسه وجعاً جرّاء الويلات والمواجع التي ما برحت تتساقط عليه.
واذا كان لابد من زاوية تسمح برؤية مكتملة لهذا الشاعر فحتماً ان قصائده وحدها من تسمح بذلك، ولعل هذا أصبح ممكناً من خلال مجموعته الشعرية الجديدة (لون الليالي) الصادرة مؤخراً عن دار ميزوبوتاميا والتي جاءت لتكشف مساحات واسعة من الوجع السومري الذي يحمله غيلان وجوانب كان الشاعر يحبسها في صدره المعبأ بحب الأرض والناس والوطن، هذا الحب الذي كثيراً ما طرحه عبر أحاديثه ذات الصبغة الكوميدية السوداء، فهو وفي حياته اليومية يطرح المفردات قصائد مجروحة بالرغم من انها غير مقفاة ولا تلتزم بغير ميزان أخلاقه التي ورثها من الأمكنة التي انطلق منها، فهو وليد تلك المدينة السومرية الطاعنة بالأدب (الناصرية) ووريث الصدق الميساني المعطر برائحة قصب (العمارة) وطينها، وهذا ما يخبرنا به في قصائده التي بلغ عددها في هذه المجموعة تسعة عشرة قصيدة، فهاهو يحتفي بمدينته العمارة حين يقول:
"يصعد الدخان.. وتصيح المناره / تسمع أشعار الصديق الغايب / وحاضر بروحك / تنزل الدمعات من عينك / وتلتم بصفنتك كل درابين العماره".
ولا يخفي هذا الشاعر المفتون بمدينة بغداد التي شهدت اغلب محطات وجعه يوم كان مقصياً من الفرح ومبعداً عن مراسيم الاحتفاء التي حتماً لم تكن لتأتي اليه في منفاه الداخلي (الباب المعظم) او (الميدان) لكنه يضع ذلك الواقع وساماً على صدره حين يشعر بالزهو والفخر كونه لم ينساق الى جوقة المطبلين وكتاب عرائض النظام السابق التي يكتبونها قصائد تمجّد الصنم من اجل حفنة من الدنانير، وهاهو في احدى قصائده يحتفي بالباب المعظم حين يقول:
"اتلفتت روحي عليه / وما دريت شلون وحدي اتلفتيت / وأسألت كل باب عني / اشلون.. وبيا لحظة اتغربيت / اشلون باب.. / اشما لذت بالوانه / يختلطن عليه.. / ايخيرن البيه عليه/ وردت ادري ومادريت".
ومن الصفات الأنيقة التي يحملها هذا الشاعر ويشهد لها جميع المشتغلين على الهم الثقافي والسياسي والاجتماعي ان غيلان كان باراً ووفياً بجميع احبته وأصدقائه، حتى الذين غادروا العراق هرباً من جحيم البعث، فقد بقي متواصلاً معهم دون خوف من سلطة الرقيب، ولعل هذا تجسد جيداً في إحدى قصائده التي أهداها لصديقه الشاعر الدافئ (رياض النعماني) والتي قال فيها:
"اقره اسمك بالكتابة / وذاك رسمك بالبياض / ومن جنوني / جلبت بهدومي حسبالي رياض / امشي وحدي / وصوفر بروحي العراق وصحت وينك يا ريااااض".
وفي قصيدة أخرى تثبت مدى الصدق والوفاء والمحبة التي يكنّها غيلان لأصدقائه كتب مفردات دافئة الى صديقه الشاعر النقي علي الشباني والتي قال فيها:
"سايلت سرجون عنك والزهاوي / يا علي / ياروح وجعانة ونكض بيهة المشي / يافرات اليغسل ايامه بجي".
وفي قصيدة ثالثة يؤكد هذا السومري اتصاله الروحي بأصدقائه ويدونهم قصائد مفتوحة يبثها عبر منظومة اشتغال تعمل على الوفاء حيث يقول لصديقه (زهير الدجيلي):
"الآن.. / من بعد الأذان / هذا نص مكتوب / بس يشبه بيان / اموقع بهمزة وصل / لو نصل ونشوفكم / لو ما نصل".
ويختزل كاظم غيلان في باقي القصائد وجعه السرمدي الملتصق به كظله، حيث يسجل ذلك الوجع عبر انثيالات شعرية تعكس مقدرة كبيرة على الهروب من قوالب الانين التي يكررها بعض الشعراء الذين اعتادوا البكاء على الأشياء دون الانتباه الى وجود فرصة أخرى تعوّض بعض الخسارات، وتلك الفرصة مازال غيلان يحرص على التقرب منها ويدونها مفردات محتدمة كما في هذه القصيدة التي يقول فيها:
"احدي / يبعد الروح.. احدي / ليل الحزن طول ويانه اهواي / احدي / اجثير مرتنه مصايب / يامصيبة المنهه نبدي".
ولوجع غيلان غرف أخرى دائما ما يترك مفاتيحها عند سلم الذهاب اليه، فهو يحرص على توثيق وجعه متشظياً بين قصيدة وأخرى، لكنه لم يغفل يوماً ان يبدي فخره بنفسه كونها لم تدفعه الى السوء وهي الأمارة به، فهو يرى في موقفه من النظام السابق انتصاراً للجيل المسحوق الذي لم يغرر به للدخول في حومة مديح الطاغية، وهذه الموضوعة يعالجها غيلان في قصيدة له جاء في مطلعها:
"اشكبرني.. مابعت روحي على الليل / اشوكحني، واكتب اهمومي مواويل / ياويل.. / يا ويل الكلب شاف وسمع من عدهم الويل / وياويل ابوحشتي ايسافر اسهيل / آنه الدنية اشتهتني اشعار واشعار / وانه بدنيه الشعر صاحب مضيف وماني خطار".
ايضاً لم يهمل كاظم غيلان الجانب السياسي في حياته، والتوغل في عمق المأساة التي عاشها هو والحزب الشيوعي العراقي على يد اعتى دكتاتورية في العالم، وضمن تدويناته في هذا الجانب نجده وفياً لرفاقه من المناضلين الشيوعيين الذين سقطوا دفاعاً عن العراق الأشم، وهذا نجده في قصيدته التي قال فيها:
"وكلشي زين.. / ونته ما عندك ايدين / امن الادين / شيل من بالك جنون الذكريات / لا تعددلي خساراتك / تره بعينك سراب / ايشوف لسه (نكرة السلمان) / والمسجون والسجان".
وحتى تكون مجموعته الشعرية مكتملة وثق شاعرنا المبدع مشاريع قلبه العاطفية، واسكن إحدى قصائده انثيالاً شعرياً تغزل فيه بأنثى من باب المعظم، ذلك المكان الذي يحمله غيلان كمكان مقدس لأنه احتضنه أيام كان يتسكع مع أصدقاء المحنة، وفي ذلك التسكع اليومي كان غيلان يراقب أنثاه المفترضة التي يجدها في اغلب نساء الباب المعظم او الميدان تحديداً وها هو هنا يستذكر إحدى إلهاماته الشعرية القادمة عبر رائحة أنثى فيقول:
"القصيدة اباب المعظم تجيني منين / من حلوة.. غسلهه النوم / وداها الصبح تمشي اويه شجرة تين / من عين استحت.. / مليانة بس بالشوف / والدنية التريد اليوم مني سنين / من كذله انثنت.. / تنكط محبة بروحي / من اتطيح / وانه استحي من الكذله التسد العين".
وفي المجموعة قصائد اخرى لها الطعم ذاته وان اختلفت زوايا التناول لكن غيلان ومن خلال هذا المهرجان الشعري الذي أقامه عبر هذه المجموعة اثبت انه طاقة إبداعية كبيرة مليئة بالسحر والجمال الذي يمنح متلقيه النشوة وأشياء أخر، بل انه أثبت فعلياً ما قاله عنه القاص والروائي احمد خلف في تقديمه قراءة سابقة لشعرية وشاعرية غيلان عندما كتب:
"تغرينا قصائد الشاعر كاظم غيلان باستحضار تجربة مماثلة لتجربته في انغماسها الشعري والانفعالي والعاطفي، اعني بها تجربة الشاعر الاسباني فردريكو غارسيا لوركا الذي جعل من شعره متراسا ًللدفاع عن اقانيم الحرية والخير والجمال".