أخي في معتقل الحارثية!
باشرت خلال أيام من تسليمي كتاب عدم الممانعة الى دائرة صحة ذي قار العمل في عيادة شعبيه تسمى (أم المعارك) في الضفّة المقابلة للمستشفى.
كانت بناية حديثة تقع على ضفّة الشط وسط حي (الصبّة)، نسبة الى ساكنيها من طائفة الصابئة، وقريبة من مقر المحافظ صلاح عبود، أحد جنرالات"خيمة سفوان" وموقعي ورقة استسلام العراق لقوى التحالف الدولي في حرب الخليج 1991.
مساءً، أسير على ضفّة نهر الفرات لأصل الى العيادة بعد ربع ساعة فقط، كان العمل يبدأ عند الساعة الخامسة وينتهي في الثامنة. درّت عليّ العيادة ضعف راتبي من الجيش وأتاحت لي التعرّف على أهل الناصرية، ففيها التقي الأطفال والنساء والرجال.
تعرّفت على أصدقاء رائعين أخرج معهم بعد نهاية الدوام لاكتشف الناصرية وأهلها، عرفت شيوخا وشباباوعجائز لمّاحات وبنات جميلات، او مثلما كان يقول دائما فراش العيادة أبو كريم: بنات الناصرية مملوحات يا دكتور!
كان نقص الدواء أعقد وأكبر مشاكلنا، اتذكر أنَّ موجة التهاب عيون الأطفال(الرمد) اجتاحت المدينة ولا نملك أي قطرة لتلك العيون السوداء البريئة والجميلة.
أطفال الناصرية يدخلون العيادة وهم مغمضو العيون تماماً، وذات يوم بكت إحدى الأمهات حين أخبرتها بعدم وجود العلاج لطفلها، فانفجرت باكيا بدوري وشتمت المحافظ الذي تصدح موسيقاه عالياً في الجوار، احتفالاً بعيد ميلاد السيد الرئيس!
تناست الأم رمد طفلها وخرجت مستغربة سماع طبيب يشتم المحافظ علناً!في تلك الأيام، اخترعنا دواءً، عن طريق مزج إبرة مضاد حيوي بماء مقطر لعلاج رمد العيون، لحسن الحظ نجحنا في ذلك.
اكتشفت مبكراً ارتباطي الحميم بالناصرية وناسها، تلمّست عراقة المدينة والعراق من خلالها في القيثارة وأور والحبوبي، عرفت هناك عشق الناس للفن والشعر والغناء بشجن جنوبي محبّب.ذات يوم، جلست استمع لمواويل حزينة يطلقها المضمد رحيم بگال من ردهة الجراحة، فيجيبه مضمد آخر من ردهة مجاورة.شجن معجون بألم جنوبي خالص لامس روحي.
متعة المشي في شارع الحبوبي رفقة أصدقاء الناصرية مع وجبة عشاء في مطعم كباب (الأعمى) من أفضل اللحظات، المطعم صغير يديره رجل ضرير، نراقبه وهو يعد الدنانير التي يدفعها صديقي حيدر معظم الأحيان، بحاسة اللمس فقط!
يُشفق حيدر على راتبي المحدود الذي يستطيع أن يحصل عليه بعمل يوم واحد في سوق العقارات كما أخبرني مراراً!
أغلب أصدقاء الناصرية كانوا من(العشقيين) كما أحببت أن أسميهم دائماً، لتعلّق أغلبهم بقصّة حبّ قديمة ومنتهية، لكنّهم يتحدّثون عنها بشغف وحنين عجيبين.
زرت بيت صديقي عبدالله مرَّات كثيرة، وأصبح والده بلحيته البيضاء وحديثه المَرح وكرمة الجنوبي من أعز أصدقائي، صرت أراه بمنزلة والدي.
أراد أبو عبدالله ذات يوم، أن يتحوّل الى محافظة النجف وأثناء البحث عن بيت هناك، ذكر له صاحب مكتب للعقار بيتاً جيداً ومناسباً في حي (البعث)! رجع أبو عبد الله الى الناصرية، عاداً تسمية الحي(البعث) فألاً سيئاً، فهو يكره البعث وكلّ ما يمت له بصلة.
لم يمرّ يوم تقريباً دون الحديث في السياسة وأحوال الناصرية مع الأصدقاء، في تلك الأيام لم تتخلّص المدينة بعد من آثار انتفاضة عام 1991، الجميع يتذمّر من الظلم الواقع على مدينتهم ويفخرون كونهم أكثر من حارب صدام حسين ونظامه. في أحيان كثيرة بدا لي أنَّ أعداد ضباط ومنتسبي الأمن والمخابرات والجيش، أكثر من أهل (الولاية) كما يسمي أهل الناصرية مركز مدينتهم، بحيث كنّا نطلق عليها "الناصرية المحتلة"!
يوما ما، زار المحافظ المستشفى العسكري، فطلب آمر المستشفى من الضباط الوقوف في الباب الرئيس لاستقباله، بقيت في مكان بعيد عن التجمع، دَنا مني نائب ضابط جبر من منطقة الإصلاح الذي ربطتني به علاقه طيبة، مستفسراً عن سبب عدم وجودي مع باقي الضباط؟ قلت له: لن اسلّم على موّقع ورقة سفوان ويتبختر الآن أمامي كفاتح عظيم! بعد تلك الحادثة، انفتح معي جبر وعرض عليّ الالتحاق بأطراف المعارضة في الهور؟ فقلت: ليس الآن.
استمر عملي في العيادة والمستشفى بسلام، لكن أوضاع العلاج تزداد سوءاً مع مرور الأيام، بحيث نستخدم أدوية تخدير منتهية الفعالية لأكثر من سنة!
حدث خلاف بين صديقي الدكتور علي كاظم الذي وقّع كتاب عدم الممانعة مع أحد أفراد حظيرة الأمن، فما كان من الأخير الا أن ذهب الى آمر المستشفى الجديد العقيد صادق البعاج وأخبره بقصة "تزوير" علي لكتاب صحة ذي قار الذي عملت بموجبه في العيادة الطبية الشعبية!
دعانا الآمر الجديد وهو من أهل الناصرية، أنا وعلي لمقابلته، حضرنا غرفته وهو يحمل بيده كتابي المزور!
سألني.. حمودي مَن وقع هذا الكتاب؟
قلت: أنا من كتبه ووقعه ولا دخل لعلي بالأمر!
أجاب.. لو طلبت مني توقيعه لما تردّدت أبدا، لا ينبغي أن توقعه بالنيابة عن الآمر، كن أكثر حذراً في المرّة المقبلة، ولم يتخذ ضدي أي إجراء.
كنت أنزل الى بغداد في إجازتي الاعتيادية لزيارة الأهل أسبوعاً واحداً من كلّ شهر، لم التزم بتواقيت محدّدة وأعود الى بغداد تبعاً لجدول عملي في العيادة والمستشفى، اتصل بالأهل عبر الهاتف بين الفترة والأخرى، كما يتصلون إن طرأ أمر هام جدّاً، حتى أنني لا أذكر أنّهم اتصلوا بي في المستشفى العسكري الا مرّة واحدة!
جاءني عامل البدالة يوماً قائلاً: أخوك عباس على الجانب الآخر من الهاتف؟!
قفزت مرعوباً الى البدالة في الطابق الأرضي، فكّرت أنَّ الأمر خطير جدّاً لأنّه يحدث للمرّة الأولى؟
هلو عباس؟
هلو حمودي.. فاضل كمشوه الانضباطية وهسه هو بمعتقل الحارثية!
قلت: أنا قادم إليكم غداً.
فاضل أخي الذي يصغرني بسنة واحدة فقط، دخلنا المدرسة في اليوم نفسه لأسباب أجهلها الى اليوم، كنّا (رويسيّه) كما تقول أمي، لكن بدون تواريخ ميلاد دقيقة، تشاركنا المدرسة والأصدقاء وفريق كرة القدم وغرفة النوم طويلاً، تبادلنا أسرار حكايات العشق الأولى، بل لم تكن بيننا أسرار أبداً، هو صديقي الأقرب، تفتّق وعينا في عائلة فقيرة لكنّها متماسكة، من أبوين هادئين أنجبا ثمانية أبناء وثلاث بنات.
كان لدينا ميل استثنائي للقراءة وحبّ كرة القدم دون بقية الاخوة، اهتمامنا بالغناء اختلف أيضا عن الآخرين.
أحبَّ فاضل، فؤاد سالم وقحطان العطار، وأحببت سعدي الحلي وأم كلثوم.
لم نفترق دراسياً الا بعد الصف الثالث المتوسط، ذهب هو الى إعدادية الصناعة وبعدها معهد التكنولوجيا وأكمل لاحقا تخصّصه المفضّل، فيما ذهبت الى الإعدادية ومن ثم كلية الطب.
قرّر فاضل الا يخدم في جيش صدام أبداً بعد التّخرّج من المعهد، وبقي لسنوات هكذا، حتى جاء وقت أصبحت دوريات الانضباط العسكري تفتّش في كلّ ركن من المدينة عن الهاربين من الجيش.
وصلت البيت قادماً من الناصرية على عجل، فوجدت أبي مُنكسراً وحزيناً، مثلما لم أره من قبل، ثقل ذلك على قلبي كثيراً.
قال أبي: بويه حمد اذا ما نطلّع فاضل من ايدين صدام فسيقطع أذنه وهذا ذُلّ لن اتحمله أبدا يا ولدي، ثم تساءل بألم، هل تعتقد أنّا فقدنا فاضل للأبد؟
لم اتمالك دمعي، صمتّ دقائق طويلة، ثم استدركت، لا تقلق يا والدي سنخرجه من السجن.
في تلك الفترة، أصدر نظام صدام قراراً يقضي بقطع صيوان أذن الهاربين من الجيش كعقوبة رادعة!
بدأت رحلة تخليص فاضل من قبضة صدام بزيارة سجن التجانيد العام، حيث عرفت أنّه أعيد اليه من معتقل الحارثية، وجدته بثياب رثّة ورائحة سجن فظيعة، لكنّه بدا متماسكاً بعض الشيء.
اتذكر أن ذلك كان في إحدى ليالي الشتاء الباردة، وغير مسموح بزيارة السجناء أثناء الليل، لكن رتبتي العسكرية سهّلت الأمر عليّ.
لم يخدم فاضل في الجيش أبداً، لذلك تعذّر وفق السياقات العسكرية الدارجة حينها إرساله الى وحدة عسكرية محدّدة وبقي شهراً كاملاً يُرسل من مكان الى آخر، من مقر الفيلق الثاني في ديالى الى معتقل الحارثية والعودة به الى سجن التجانيد في منطقة جميلة.
اتبعته أين ما ذهب، مستعينا ببعض الضباط وبدفع الرشى لهم، على أمل إطلاق سراحه.
أثناء وجود فاضل في معتقل الحارثية الذي أعيد اليه مرّة أخرى كان من المستحيل زيارته داخل هذا الحصن المنيع. لم أجد طريقة لدخول هذا المجمع الفظيع الا عن طريق المفرزة الطبية، حيث ذهبت الى مستشفى الرشيد العسكري، فوجدت زميلي الدكتور أحمد سهيل من يقوم بعمل الطبيب هناك، وكانت سيارة الإسعاف في طريقها من المستشفى الى المجمّع.
طلبنا من أحد المعاونين الطبيين الذهاب الى قاعة السجن وإحضار فاضل بطريقة طبية، فمن غير الممكن ذهابي شخصياً الى قاعة السجن.
دخل فاضل الى غرفة الطبيب حافي القدمين، أجهشت بالبكاء لمنظره، وإحساس المهانة الذي شعرت به، بدا أنّه فقد الكثير من وزنه، تبادلنا العناق والبكاء، طمأنته وشرحت له ترتيبات اتفاقي مع ضباط الأمن لإخراجه، أعطيته علبتين من السكائر، فأخذ واحدة فقط، لان إدارة السجن لا تسمح بأكثر منها.
كانت الحارثية مقر الانضباط العسكري العام وأكبر سجن للهاربين من الجيش، يقع بداية معسكر الرشيد وبمحاذاة الخط السريع المؤدي الى بغداد الجديدة، لا أدري من أين أتت تسمية الحارثية لهذا المكان سيّئ الصيت الذي أرعب آلاف الشباب.
ذهبت كلّ مدخراتنا المالية على قلّتها في بُطُون ضباط الأمن والتجنيد.
وسط مشاعر القلق، ودوامة التجانيد ورشى الضباط، وعند الساعة الثالثة فجراً من ليلة شتاء ماطرة، وبعد شهر تقريباً من دخوله السجن، استيقظت على طرق باب منزلنا، نهضت، فتحت الباب بوجل، فوجدت فاضل أمامي! تمكّن بعض رفاق السجن من إحداث ثغرة في الباب الخلفي وتهريب جميع الفرارية!
عدت الى المستشفى العسكري بعد شهر، لأجد أنهم بعثوا ببرقية هروبي من الجيش الى مقر الفيلق، باعتبار تجاوزي لفترة إجازتي الاعتيادية!
استطاع مساعد الآمر أن يتابعها ويلغيها مقابل 2000 دينار وضعتها في جيبه! بعد ذلك، أوشكت مدّة الإقامة في المستشفى العسكري على الانتهاء وجاء موعد الانتقال الى وحدة الميدان الطبية.
اتصلت بنائب ضابط في مديرية الخدمات الطبية العسكرية يعمل في قسم التنقلات وطلبت منه أن يبقيني في الناصرية لا غيرها، فجاء كتاب النقل الى وحدة الميدان الطبية 37 في الناصرية!
سأخبرك عند عودتي!
باشرت في وحدة الميدان الطبية التابعة الى الفرقة 11 بداية 1996، موقعها بداية الناصرية على الطريق العام القريب من كراج بغداد.
يتكوّن مقر الوحدة من ثلاث غرف صغيرة، غرفة الآمر وهو ضابط برتبة رائد طبيب وغرفتان لسكن الضباط الأطباء ذوي الرتب الصغيرة وقليل من الجنود الأطباء ومساعد آمر نقيب مشاة، وثمة ملحق، بغرفة صغيرة كمطعم للضباط.
يفصل المقر عن مجمع لقاعة الجنود وصيدلية وسجن وغرفة فحص، ممر مبلّط مسافته خمسون متراً، وجميع غرفه محاطة ببرك مياه آسنة على مدار السنة وبعض الآليات السكراب التي تتخذها الكلاب السائبة مأوى لها.
اتخذنا أنا ونقيب مصطفى البصراوي الوسيم أصغر الغرف سكناً لنا، ارتبطت بعلاقات جيدة مع الجميع لكنّه الأقرب لي، كان مصطفى ينوب عن الآمر في غيابه وهو ضابط أمن الوحدة كذلك ويهتم بي كصديق مقرب، حتى أنّه يتغاضى عن إرسالي الى المفارز الطبية للمناطق البعيدة مثل "الجبايش" والسجن المركزي للفرقة 11.
نقضي اليوم بلا عمل وننتظر نهايته لنذهب الى عملنا المسائي في العيادات الشعبية التي توفّر خدمة طبية بأجور رمزية للمواطنين أثناء الحصار.
معروف أنَّ وحدة الميدان الطبية وحدة غير فعّالة ولا تشترك في المعارك عادة ومعظم جنودها غير مسلحين ومن معاقي الحرب.
في تلك الأيام وقبل خروجي بأشهر، وصل كتاب التحاق ضباط دفعتي بدورة الترقية في بغداد، لمنحنا رتبة عسكرية جديدة، التحق جميع زملائي ورجعوا برتبة نقيب، أما أنا فلم أذهب، لأني لم أحبّ العمل في الجيش وأخطط لمغادرة العراق.
كان لدينا جهاز مخابرة قديم جدّاً أسميّه (ابو اليدّة)، تردنا من خلاله برقيات ورسائل من مقر الفرقة، كنت أضحك وأنا أسجلها أحياناً، تبدأ بأرقام وحروف لا أفهمها وتتضمّن تعليمات لا تعني لي شيئا وأنا الضابط الأشوس، المعنويات في الحضيض والراتب لا يشتري دجاجة!
ذات يوم، رَنّ ابو اليّدة العتيق وقام جندي المقر حازم ابن ملا محمد خضير بالإجابة:
حازم.. أسمعك جيداً.. أجب
برقية من استخبارات فق 11، دخل "المخرّب" كريم ماهود إلى قاطع الفرقة وشوهد بسيارة حمراء يرتدي ملابس عسكرية عند منطقة الإصلاح.. أجب.
حازم ، وأنا استمع اليه.. كا هو لابس بدلة عسكرية وسيارته حمرة وبالإصلاح ما تلزموه، ليش مخابرينا؟!
في وحدتنا الطبية المضحكة، طبيب أسنان اسمه عمَّار لا نراه الا مرّة كل عدّة أشهر، يستلم الآمر راتب عمار مقابل أن يبقى عمار في بيته وعيادته في بغداد. خمس أو ست جنود ومراتب نسمع بهم فقط ونراهم نادراً، أغلبهم من الأكراد، ينوب عنهم الآمر في استلام الراتب ايضاً. غالبا ما حدثت خلافات كبيرة بين الآمر ومساعده نقيب المشاة سيف الكردي، فالآمر لا يترك له أي منفذ للحصول على مرتب أحد الجنود لتدبير معيشته! كان سيف، يتمنى أن يحصل على راتب جندي واحد او اثنين، فهو لا يحصل الا على راتبه المتواضع جدّاً، وكان حينذاك يعادل نحو(دولار امريكي واحد)، وليس لديه عيادة مثل آمر الوحدة او بقية الأطباء.
كره الرائد للنقيب واضح ولا تخطئه العين، يغتابون ويعيبون بعضهم بمناسبة وبدونها.
ذات يوم، جاء الرائد الطبيب بكتاب ديني ورد فيه حديث عن كراهة معاشرة الأكراد لأنهم قوم من الجن! لم يكن الرائد متدينا أصلاً وثقافته بسيطة، لكنّه، أخذ من الموروث الديني، شأن كثيرين هذه الأيام ما وافق هواه.
قرأت كتباً دينية مطلع شبابي وحصلت على معلومات مفيدة بهذا الاتجاه أهلتني للإجابة عن حكاية الجن بما يدحضها، قلت للآمر: الحديث مخالف للعدل الالهي وجميع البشر مخلوقات الله!