كان أحد المحتجزين مصاباً باكتئاب وحنين مرضي لأهله وأطفاله، فرفع صورهم ليضعها أمامنا ويقول: تخيّلوا لن أراهم بعد اليوم، كيف تسنّى لي تركهم هناك، وأي حماقة ارتكبتها بالمجيء الى أستراليا؟!
بدأنا بالخروج صباحاً والتّوجُّه إلى ساحة الإضراب، بدل الذهاب الى المطعم، نبقى ساعتين هناك ونعود، ثم نخرج من الساعة الثالثة الى السادسة عصراً ونترك وجبة الغداء والعشاء. توقفنا عن جميع النشاطات التي نقوم بها عادة، مثل الألعاب الرياضية وحضور دروس اللغة الإنكليزية، لكن بعض المحتجزين ممن يجيد الإنكليزية، قام بإعطائها للآخرين.
كانت أم محمد الأردنية، أول الحاضرين وآخر المغادرين مع طفلها، الأمر الذي أثار نخوّة كثير من المحتجزين وحماسهم، فللمرأة في الثقافة العربية قيمة مضاعفة في إثارة معنويات الرجال. التزم معظمنا بعدم الأكل والاكتفاء بالماء فقط، وأكدنا ضرورة الإكثار من شربه، كان بعض الأشخاص يأكل وجبة واحدة في المساء، أما مجموعتي، فالتزمت عدم الأكل تماماً. لم يشترك المهاجرون الأفغان في الإضراب، لكنّهم أبدوا تعاطفاً كبيراً معنا، أذكر أنَّ السيد كريم الافغاني يأتي لنا بالطعام كلّ مساءً متوسلاً أن نأكل ولو قليلاً منه، كان يفعل ذلك والدموع تترقرق في عينيه الصغيرتين.
كان الجميع مصرّاً على وضع حدّ للمعاملة المهينة التي نلاقيها، حتى أنَّ البعض خاط فمه بعدّة غرزات، وهو منظر أرعبني برغم خياطتي لمئات وربما آلاف الجروح! كنّا نلاحظ قلق الحراس والإدارة من الإضراب، حاولوا الحديث مع أعضاء اللجنة لفضّ الإضراب، أطلقوا وعوداً بدت غير جدية لحلّ المشكلة، وحرصوا على تذكيرنا بعدم جدوى الإضراب في تغيير نهجهم. ارتفعت وتيرة التّوتُّر في اليوم الثالث، وأصيب بعضهم بالإغماء والانهيار بفعل الجفاف والإعياء.
لم نكن نعرف، ما إذا وصل صدى إضرابنا الى الصحافة والتلفزيون أم لا، وهو أمر سعينا اليه، مع أنَّ بعض العاملين في الإدارة كانوا يأتوننا بأخبار طيّبة بشأن حديث الصحافة عن محنة اللاجئين، وسرّب بعضهم الى الصحافة صور الأشخاص الذين قاموا بخياطة أفواههم. بطريقة ما، تمكّن أحد المحتجزين من الحصول على راديو صغير، فطلبوا مني التسلّل الى غرفته والاستماع الى نشرة أخبار الساعة الخامسة، إذ كنّا أعضاء اللجنة نخضع لعملية مراقبة صارمة من حرّاس المعسكر.
استمعت للأخبار وجئتهم بالبشرى، نعم، لقد تم ذكر الإضراب وحالات الإغماء والإعياء بين المحتجزين والظروف السيئة داخل الكمب.
استمر الإضراب أسبوعاً كاملاً، وتكلّل بزيارة مبعوث شخصي من وزير الهجرة لأخذ طلبات المحتجزين والعمل بها. كان المبعوث الدكتور العراقي محمد السلامي الذي يعمل مع دائرة الهجرة.
طمأننا السلامي على وصول رسالتنا بقوّة للجهات المسؤولة، وقدم لنا وعوداً حقيقيّة بالعمل على تنفيذ مطالبنا، والمفارقة أنَّه وجد أحد أبناء عمومته بين المحتجزين! لكنّ البعض سعى خلال الاجتماع به الى طرح أشياء غير عملية ومنطقية، مثل الاستمرار بالإضراب حتى تغيير الوزير أو كريك والاس!
تحدّث الدكتور السلامي بأدب، وشرح لهم مسألة النفس الطويل الذي تعمل بضوئه مؤسسات الدولة الأسترالية وسياقاتها الإدارية، وكيف أنَّ لكلّ موظف حتى لو كان وزيراً صلاحيات محدّدة لا يمكن تجاوزها، وأنَّ عملية الخروج من الكمب تتم وفق أسس ومبادئ دائرة الهجرة. ثم أثنى على عملنا، قائلا: قمتم بما عليكم فعله، وما تبقى يقع على عاتق الحكومة، كونوا صبورين وستصبحون أستراليين عمّا قريب!
وأخذ يكرّر قول: صدقوني لن يبقى شخص واحد في الكمب للأبد، إنَّها مسألة وقت وسنراكم في سدني وملبورن قريباً. بدا كلامه لأكثرنا أقرب للأمنيات منه الى الواقع، لكن لا خيار لدينا سوى تصديقه، فهو على أي حال عراقي، منّا وبنا، ولا يمكن أن يكذب علينا.
اتفقنا مع الدكتور السلامي على فضّ الإضراب، واشترطنا سقفا زمنيا لتنفيذ مطالبنا، كما طالبنا بحرية الاتصال مع أهلنا والبدء بمعاملة اللجوء، وهدّدنا ضمنا بالعودة الى الإضراب في حال لم تنفذ مطالبنا.
عقب ذلك، ذهبنا صحبة السلامي الى المطعم لتناول وجبتنا الأولى من الغذاء بعد أسبوع الإضراب العصيب.
انتهاء الإضراب
دبت حركة غير عادية في الكمب حال الانتهاء من الإضراب، نصبت ثلاثة هواتف عمومية وتسنّى لنا الاتصال بالأهل لأوّل مرّة بعد ثلاثة أشهر، وضعت كرفانات جديدة وتحوّل جميع المحتجزين اليها ورفعت الخيم، كذلك وضعت مجموعة حمامات جديدة واعتاد المحتجزون على استخدام التواليت الغربي!
بدأت دائرة الهجرة الاستماع الى قصص المحتجزين عبر مجموعة محامين، ثم قاموا بتدوين كلّ قصة وإعطاء نسخة منها الى المحتجز لمراجعتها، طبيعي أن تكتب النسخ بلغة إنكليزية، الأمر الذي يتطلّب مراجعتها أحياناً مع بعض الأصدقاء، لتدارك أي خلل أو شيء لم يتم ذكره. كانت معظم القصص حقيقيّة، لكن بعضهم عمد الى كتابة قصّة مضحكة، قصّة المهاجر أبي اكرم كانت إحداها، فهو مدمن خمر، لم يصلِ ركعة واحدة في حياته وليس له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد، لكنّه أصرّ على حكاية المكيدة التي تعرّض لها من صديق مقرب، حين قام بتسجيل شريط له، يسبّ فيه صدام والحكومة وهما على مائدة الخمر، بيد أنَّ القصّة زائفة وغير حقيقيّة، فأبو أكرم طلب العفو غيابياً من صديقه مرراً عن تلك الكذبة، الحقيقة أنَّ صديقه كان خير جليس وغالباً ما شاركه سبَّ صدام ولعن عصابته!
علمنا أنَّ من العوامل المهمة لقبول طلب اللجوء، إعطاء المحامين كتاب عدم محكومية صادر عن آخر بلد عاش فيه المحتجز، وتلك مهمة عسيرة بالنسبة لمن عاش في بلدان مثل، إيران أو سوريا أو اليمن.
من جانبي اكتفيت بذكر مهنتي ورتبتي العسكرية وهروبي من جيش صدام، مستنداً الى هوية الضابط التي أحملها دليلاً كافياً على عدم إمكانية عودتي الى العراق، لكنّي أغفلت فترة بقائي في اليمن قرابة السنتين، بسبب استحالة حصولي على عدم محكومية من هناك، وهي كذبة سأدفع ثمنها لاحقاً!
استمع المحامون الى جميع المحتجزين، تمهيداً للبتّ في قضاياهم ومنحهم صفة لاجئ، ثم السماح بخروجهم الى المدن.
خلال ذلك، انشغل المحتجزون بتنظيم دورات لكرة القدم وإقامة معارض فنية في الرسم والنحت، أبدع بعضهم في نحت أشياء من الخشب والصابون!
تمكّنا بعد ذلك من إصدار نشرة أسبوعية تتضمن إخبار الكمب وبعض المساهمات الأدبية ورسوم الكاريكاتير. آخرون ممن لا يملكون المال وجدوا لهم أعمالاً صغيرة داخل الكمب، مثل التنظيف أو العمل في المطبخ مقابل مواد عينية محدّدة، كالسكائر والملابس، كانت طريقة مفضلة لتزجية الوقت والعمل أيضاً. افتتحت إدارة الكمب حانوتاً لبيع الحاجات الأساسية خاصة السكائر وبعض الملابس الضرورية.
لقصص الحب والغرام نصيبها أيضاً، ولم يخلُ الكمب من قصص حب وأماسي غرام بين اللاجئين وبعض اللاجئات الوحيدات.
ذات يوم، أحدثت قصّة تحرّش شابين بصبي صغير صدمة كبيرة بيننا وألقي القبض على المتحرّشين! فيما سارت الأمور برتابة وهدوء نسبيين، قامت إدارة المعسكر بأخذ خمسة أشخاص الى السجن بتهمة التحريض على العنف والإضراب، تهمة لم نجد لها أساساً منطقياً، إذ كانوا مجرد متذمرين وأصحاب أصوات عالية وليس لهم تأثير يذكر على بقية المحتجزين. بدأت بوادر الانفراج ونهاية أيام المعسكر، بخروج مجموعات صغيرة الى المدن، بعد 6 أشهر أطلق سراح مجموعة كبيرة من المحتجزين وسُمح لهم بالتوجه الى مدينة بيرث عاصمة غرب أستراليا وكنت واحداً منهم.
555
في 25 أيار عام 2000، خرج أحد أفراد حرس الكمب من مقرّه حاملا ورقة، تبعه لاجئون كثيرون مثل أطفال خلف عجوز تحمل كيس حلويات في يوم عيد، عيون مفتوحة وأذان متلهفة لسماع البشرى.
وقف الحارس بداية صف الكرفانات وبدأ ينادي بالأرقام التالية: 555 ...556 ...557، الى أنَّ عدّ نحو 20 رقما، فصرخ بعضهم فرحا، ونكّس آخرون رؤوسهم خيبة.
الرقم 555 رقمي، يذكّرني اليوم برقم قائمة الائتلاف الشيعي في انتخابات 2005! أما وقتها فضحكت لارتباط الرقم 5 بالذاكرة الشعبية العراقية من خلال الشائعات التي تطلق على مطربي المفضل سعدي الحلي! أما موظف الهجرة، فقال لي: هو أفضل من 666 على أي حال! لم أفهم الإشارة حينها، الا بعد سؤالي لصديقي بهاء الذي ذكر أنَّها تشير الى الشيطان في الموروث الإنكليزي!
الرقم 556 لبهاء، و557، لصديقي عادل التاجر الكظماوي وصاحب طبخة التمن في رحلة عبور البحر الثالثة ورفيقي في السكن.
أخيرا، أحرزنا موافقة الحكومة الأسترالية متمثلة بوزير الهجرة في منحنا فترة إقامة مؤقتة لمدة سنتين، يُسمح خلالها بالعمل ودفع الضرائب والحصول على رعاية صحية مع المنافع الاجتماعية في حالة العجز عن العمل. لكن الإقامة لا تمنح حق السفر أو لمّ شمل العائلة، بعد ذلك، يعاد النظر في وضع اللاجئ حال انتهاء فترة السنتين، وقد تتم إعادته الى موطنه الأصلي، إذا سمحت ظروف بلاده بذلك.
غمرت الفرحة جميع المهاجرين وتبادلوا التهاني فيما بينهم، الخروج من المعسكر يعني كلّ شيء، المدن الجميلة، المال، النساء، الخمر والعيش الرغيد.
عند الحادية عشرة صباحاً غادرنا المعسكر في باص من مدينة ديربي الصغيرة الى بيرث عاصمة غرب أستراليا، استغرقت الرحلة 5 ساعات تقريباً.
في منتصف المسافة أخرج وليد الصابئي عوده وبدأ يعزف، دندنت معه أغنية "ليلة ويوم" لسعدي الحلي بكلّ ما تمثله من حنين وفرح ووجع عراقي.
لم نشاهد ما يدعو للدهشة خلال الطريق كله، باستثناء حجم الأبقار والثيران اللافت في كبره وعدد الكناغر الميتة على جانبي الطريق. توقفنا مرتين فقط للراحة والتدخين، وبرغم الفرح، شاب مشاعر البعض نوع من القلق الغامض من المجهول وتفاءل آخرون ممن لديهم أصدقاء أو أفراد من العائلة في أستراليا.
وصلنا الى بيرث نحو الساعة الرابعة عصراً، نزلنا في فندق بسيط وسط المدينة وكان في استقبالنا متطوع عراقي، مهمته تقديم المساعدة والنصح للقادمين الجدد، شرح طبيعة عمله وما يمكن أن يقدمه لنا، ثم وعدنا بالمجيء في اليوم التالي قبل أن يتنحى جانبا ليخلي مكانه الى ممثل الكنيسة جون الأحمر والنحيف.
حدّثنا جون عمّا يمكن أن تقدمه لنا المسيحية الرؤوفة بالضعفاء، وفيما جون يتحدّث، طلب موظف الفندق من متطفل أسمر بدين يقف خلفنا مغادرة المكان، فتوجّه الأخير لموظف الفندق بصفعة قوية وتحدّث بإنكليزية متقطعة قائلاً:
Don't touch me, I am free person,
you Australians racists!
بهت موظف الفندق ولم يعرف بماذا يجيب أو كيف يرد، خرج بعدها الأسمر وجلس على الرصيف وهي عادة لا يفعلها الأستراليون، يبدو أنَّه مهاجر وصل قبلنا بمدة.
شكرت جون بالنيابة عن الجميع واعتذر باقي المجموعة منه، غادر الفندق بعض من لديهم معارف في أستراليا، وبدأ البعض ترتيبات الانتقال الى ولايات أخرى. لم يكن لدي سوى 75 سنتاً ولا أعرف أي مخلوق في أستراليا، أما صديقي عادل، تاجر الكاظمية، فيعرف صديقا يعيش في بيرث، حصلنا على رقم هاتفه من بعض العراقيين، اتصل به وطلب 500 دولار لنتدبر أمرنا، بعد الليلتين المحدّدتين لمبيتنا في الفندق.
في اليوم الثالث عاودنا الاتصال بصديق عادل مرّة أخرى، جاء واصطحبنا إلى شقّة أرضية فقيرة في عمارة من ثلاثة طوابق، ملحق بها صالة ومطبخ صغير، الى جانب سرير لشخصين وآخر لشخص واحد، على كلّ سرير بطانية واحدة.
المشكلة أنّنا أربعة أشخاص، أنا وبهاء وعادل وعلي، والأسرّة ثلاثة فقط، الى جانب أنَّ فصل الشتاء في استراليا يحلّ نهاية الشهر الخامس، لذلك قضينا ليلنا في جو بارد جدّاً يصكّ الاسنان ويوجع العظام، بحيث فكرنا أنَّ حياة الكمب كانت أقلّ قسوة من حياة المدينة!
استيقظنا صباحاً بمزاج محبط وكئيب، فيما بدا بهاء سعيداً وبمعنويات عالية. أنا وعادل قررنا الخلاص من هذا الوضع، فلم نألف العيش بلا عمل أو نقود.
اتصلت بمؤسسة القديس بول الخيرية، شكوت لهم البرد وقلّة الحيلة، فبعثوا لنا عصراً بطانيات وأغذية معلّبة، ثم جاءنا متطوع عراقي بقدور طبخ وصحون ومدفئة صغيرة. بعد ذلك، استلمنا بطاقتي البنك والضمان الصحي، بجانب رسالة تؤكد نزول الدفعة الأولى من الإعانة الاجتماعية البالغة 300 دولار في حسابنا المصرفي خلال أسبوعين. في غضون أسبوع غادرنا عادل وعلي الى سدني بحثا عن فرصة عمل وبقينا أنا وبهاء في الشقّة بانتظار التهيئة لمستقبلنا في مهنة الطب.
America under attack!
مقابل شقّتنا الأرضية يسكن شاب أفريقي، يلفّ ذراعه الأسمر خصر صاحبته ذات الشعر الأحمر والأرداف المكوّرة ونحن ننظر اليه بنظرات الحسد والغيظ.
فوق شقّة الأفريقي، فتاة شقراء مكتنزة بخصر جميل ترتدي الأسود معظم الوقت، ومن خلل الثياب التي تلبسها، ينكشف تلألؤ الأكتاف الذهبية تحت أشعة الشمس، تمشي مطرقة بنظارات بيضاء، انادي بهاء كي يمتّع نظره ولو لثوانٍ بقوام (أم النظارات)، حين أراها قادمة أو خارجة من شقّتها، يأتي بهاء مسرعاً، يتنهّد مردّداً مثلا كان حفظه عن والده: "اييه... كالمربوط والمرعى خصيبُ".أما فوق شقّتنا، فيسكن أسترالي ضخم مع صاحبته البدينة، يذهب كلّ يوم للعمل ببدلة زرقاء وفوق كتفه شيء شبيه بطائر، كنّا نسميه (الرائد)، كان ما يرتديه يذكّرنا بالزي العسكري الذي يلبسه ضابط برتبة رائد في القوّة الجوية العراقية. عند الطابق الثالث من العمارة المجاورة، يسكن اثنان من العراقيين، في نهاية العقد الخامس من العمر، كنّا نسمع حديث أحدهم بوضوح وهو يتحدّث بهاتفه الخلوي!
في الشقّة الأرضية المجاورة لشقّتنا تسكن عجوز أسترالية نحيلة جدّا اسمها لندا، وحيدة وثملة معظم الوقت، تخرج بملابس فاضحة وتحيينا وهي تلوك كلماتها، تسأل عن أسمائنا ومن أي البلاد نحن؟ نصدقها القول، فتعيد السؤال نفسه في اليوم التالي! ادمان السكر أحدث ثقبا عميقا في ذاكرتها، تبدّل أصدقاءها كلّ فترة، ويكونون عادة بدناء بثياب رثّة.
نسمع صوت موسيقى صاخبة من شقتها ليلاً لينطلق بعدها صوت عالٍ وصراخ ينتهي بطرد الصديق من الشقّة وحضور الشرطة في بعض الأحيان.
ذات يوم، وجدناها مخمورة عند محطة القطار، سألتنا عن عنوان بيتها وهل يمكن ان ندلّها اليه؟!
قلنا لها: ما عليك سوى السير معنا!
كان بهاء يستمتع بالتّجوُّل في الأسواق والتّسوُّق أحياناً، أما أنا فلا أحبُّ ذلك أبداً، يخرج، وأبقى في الشقّة بمزاج كئيب ولا رغبة لي بأي شيء، ليس لدي ثمن علبة السكائر وتلحّ عليّ رغبة التدخين، عندي خمسة دولارات فقط لا تكفي لشراء أرخص أنواع التبوغ، ذهبت الى محل بيع الدخان وسألته، إن كان يبيع السكائر بالمفرد، استغرب من سؤالي وأجاب بالنفي! معروف أنَّ مناهج التعليم في كلية طب بغداد تدرّس باللغة الانكليزية، لكنّها لن تجعلك قادراً على التحدّث بها بطلاقة، لذلك، لم أكن واثقاً من نفسي ومن لغتي، أشعر بالحرج حين اتحدّث بالإنكليزية، كنت أسأل نفسي، إن كان ما فعلته جيداً أم سيّئ، فعمري يناهز الحادية والثلاثين وسلوتي الوحيدة الدندنة بأغنية طالب القره غولي: "عُمْر وأتعدى التلاثين لا يفلان، عمر وتعدى وتعديت".