لا يخطئ المتتبع لمجرى الأحداث بالعراق، حين يتلمس تراجع الشعبية، التي اكتسبها بعد إزاحة المستبد بأمره، وتسلمه رئاسة الوزراء، مع عدم تنفيذ كل ما وعد به حيدر العبادي خلال الفترة المنصرمة، بحيث بدأ الناس يرددون بيت الشاعر كعب بن زهير الذي قال:
صارت مواعيد عرقوب لها مثلاً
وما مواعيدها إلا الأباطيل
ومن المثير لمشاعر الناس، أن يظهر رئيس الحكومة يومياً تقريباً، ليلقي خطبه الجنجلوتية في اجتماعات ومؤتمرات صحفية، ينثر فيها الوعود بغير حساب، والحصيلة، عدا ما يحصل من نجاحات في جبهات القتال وهي ليست قليلة، صفراً على اليسار، بحيث بدأ يفقد مصداقيته أمام المزيد من الناس، حتى من آمن، بأنه سيكون المنقذ للعراق من أمراض العراق الجديدة الثلاثة (الطائفية والفساد والإرهاب)، التي التحمت وتشابكت أخيراً مع علل العراق السابقة، التي ما تزال قائمة، وهي الفقر والجهل والمرض. وحين ينظر المتتبع إلى وجوه الإعلاميين، أو غيرهم، الذين يستمعون إلى خطبه وتصريحاته، ترى الحيرة والسأم وعدم القناعة مرتسمة على تلك الوجوه وعلى وجه الناس.
وفي الوقت الذي يتحدث رئيس الوزراء كثيراً، يعمل أقل من القليل، في تنفيذ مهماته، ومنها بششكل خاص محاربة الآفات الجديدة والقديمة السائدة بالعراق، وخاصة الطائفية والفساد والإرهاب، وما ينجم عنها من موت محقق لمزيد من البشر، يواجه المجتمع مجموعات من أتباع المليشيات الطائفية المسلحة، والمتحجرين من شيوخ الدين، والانتهازيين، الذين يستخدمون الدين لإرهاب المجتمع، يوزعون الملصقات المطبوعة ويعلقونها في مناطق مختلفة من بغداد، تهدد الناس بشتى العقوبات التي ما أنزل الله بها من سلطان، نسوق بعض ما علق في حديقة الزوراء وفي نقاط التفتيش والحواجز الكونكريتية، منها مثلاً:
** الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر؛ **
من صافح امرأة تحرم عليه (أي أجنبية)، فقد باء بسخط من الله؛ أيما رجل تزينت امرأته وتخرج من باب دارها، فهو ديوث ولا يأثم من يسميه ديوث"؛ وأما التي كانت تأكل لحم جسدها، فإنها كانت تزين بدنها للناس؛ بيت الغناء لا تؤمن فيه الفجيعة ولا تجاب له دعوة ولا تدخله الملائكة؛ اشتد غضب الله (عز وجل) على امرأة ذات بعل (أي متزوجة) ملأت عينيها من غير زوجها أو من غير محرم منها؛ من ملأ عينيه حراماً يحشوهما الله تعالى يوم القيامة مسامير من النار ثم حشاهما ناراً إلى أن تقوم الناس ثم يؤمر به إلى النار؛ من سلَّم على شارب الخمر أو عانقه أو صافحه أحبط الله عليه عمله أربعين سنة... (راجع: موقع شفق بتاريخ 21/1/2016).
كل هذا يحصل بالعراق، هذا البلد المتعدد القوميات والديانات والمذاهب، البلد المتعدد الثقافات، وتحت سمع وبصر الحكومة، والقائمون بها من أتباع أحزابها الإسلامية السياسية، ومليشياتها المسلحة، فهل يمكن أن يتحدث رئيس الوزراء عن بناء حكم ومجتمع مدني ضد الحكم الطائفي القائم والأحزاب الطائفية المهيمنة على السلطة والمال والنفوذ على المجتمع!! في هذا الوطن الذي تعتصره الطائفية ويستبيحه الفساد والإرهاب والاحتلال، سقط له خلال شهرين فقط، أي بين 31 تشرين الأول/أكتوبر حتى 31/كانون الأول 2015، 18800 قتيل وشهيد، إضافة إلى أضعاف هذا العدد من الجرحى والمعوقين من الإناث والأطفال والذكور، وكذلك خسارة الملايين من الدولارات الأمريكية بسبب الخراب والدمار الذي عم البلاد، هذا على وفق التقرير الصادر عن الأمم المتحدة بهذا الخصوص. (راجع موقع كلمة حب بتاريخ 22/1/2016). علماً بأن الأرقام الحقيقة أكثر من ذلك بكثير والتي لا يتم الكشف عنها.
وأخيراً وليس أخرا ما حصل في المقدادية، مجزرة بشرية رهيبة تقشعر لها الأبدان وتشمئز منها النفوس، إنها بشاعة، وتشكل لطخات عار في جبين العراق كله، وبشكل خاص، في جبين أولئك الطائفيين الشيعة القتلة، الذين حملوا رؤوس ضحاياهم، وهم يرددون، ما قاله قبل ذاك رئيسهم: "أن المعركة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد لا زالت مستمرة بكل شراسة ومواجهة عنيدة!! أنصار يزيد إجراميون طغاة حاقدون على الإسلام وآل البيت، الجريمة بحق الحسين لم تنته"، وهو ما يحصده الشعب حالياً، ويبدو إنها تمت على أيدي من وجه لهم خطابه الانتقامي!! وهي نفس الأفعال الدنيئة التي تمارسها عصابات داعش المجرمة. إن هذا الواقع الذي يعيش تحت وطأته الشعب العراقي، يدفع بالمزيد من الشباب والشابات، والكثير من العلماء والمثقفين والمثقفات ومن ذوي الاختصاصات العلمية، ومنها الطب وأساتذة الجامعات، إلى ترك العراق والهجرة إلى المجهول، لأنهم فقدوا الأمل بالتغيير ولا يرون أمامهم غير البؤس والفاقة والموت. وهذا ما يتحدث به اللاجئون إلى ألمانيا وإلى بقية الدول الأوروبية حين يتحدثون إلى المسؤولين الألمان عن أسباب هجرتهم، وهذا ما ينقله لنا المترجمون، وما يرويه لنا من نلتقي بهم من اللاجئين.
إن المحنة كبيرة جداً والأزمات متشابكة ومتلاحقة ومتراكمة ولا يمكن معالجتها بمظاهرات تخوضها جمهرة مقدامة من شبيبة العراق، بل يفترض العمل على تعبئة الناس وإبعادهم عن تلك القوى والأحزاب الإسلامية السياسية التي كسبتهم في غفلة من الزمن، وبدعم مباشر من عدد كبير من شيوخ الدين والمؤسسات والمرجعيات الدينية، السنية منها والشيعية، عبر تشويه وعي المجتمع الفردي والجمعي.
نحن بحاجة إلى أساليب وأدوات نضالية جديدة، فظاهرة النهوض الشعبي ممكنة حقاً، وأتمنى على منظمي المظاهرات، عقد مؤتمر واسع لمناقشة سبل مواجهة الآفات التي تفتك بمجتمعنا، وبقيمه ومعاييره الإنسانية، وبحضارته ومستقبله.