يعيش عراق اليوم مأساة ومهزلة فعلية في آن واحد، يعيشهما لا على خشبة المسرح وعبر ممثلين فاشلين، بل على مسرح الحياة اليومية للشعب العراقي المستباح، وشخوص هذا المسرح الحي سياسيو الصدفة والزمن الرديء والسوء، زمن الردة الاجتماعية والانحدار الحضاري نحو مستنقع الرثاثة الفكرية والاجتماعية والسياسية.
عواقبها تتجلى في المزيد من القتلى والجرحى والمعوقين، المزيد من النهب والسلب وتضخم الحسابات في البنوك الأجنبية رغم الأزمة المالية والنفطية، في مقابل المزيد من الفقر والبؤس والفاقة الفكرية والسياسية، والمزيد من الألاعيب والضحك على ذقون الشعب المنهوب والمكروب.
لم يعد يخفى على أحد ما يجري على مسرح السياسة العراقية الداخلية، حتى أشد المتفائلين الطيبين والبسطاء من الناس أدركوا المناورة.
إن ما يجري بالعراق ليس سوى عملية توزيع أدوار بين لاعبين فاشلين، يعتقدون بإصرار الأغبياء، بأن الشعب لا يدرك ما يجري، وأن السياسة بالنسبة لهم ليست علماً ومعرفة وفنا وحكمةً، بل هي اغتنام الفرص واللعب على الوعود الكاذبة، والاستفادة من الوقت لتعزيز المواقع المهتزة، لإبقاء النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المخلة بوحدة الشعب.
والسؤال المهم: هل العراق أمام شخصية قادرة على الإصلاح والتغيير؟
الإجابة بصراحة: الشعب العراقي يواجه شخصية غير ملتبسة، شخصية من صلب النظام السياسي الطائفي، لا يختلف عن رئيسيه في الحزب والتحالف الوطني، إذ إنهما نسختان متباينتان لمضمون طائفي واستبدادي واحد، إلا في ما يحمل من شهادة عالية لم يستفد منها في إدراك إن الحياة علم ومعرفة، وخوضها لا يمت إلى الدين ومذاهبه بصلة، فالعلم شيء، والدين شيء آخر.
فمن غاص في الدين، لا كمسألة فردية، بل يستخدمه في السياسة ومن موقع المسؤولية، كما يفعل اليوم قادة وكوادر الأحزاب الإسلامية السياسية العراقية، عندها ينسى العلم والمعرفة والحكمة كلية، ويقود المجتمع إلى ذات العاقبة المأساوية التي أوصلنا إليها رئيساه الجعفري والمالكي.
لم تكن مأساة العراق ومهزلته في وجود الجعفري والمالكي على رأس الحكومة العراقية لثلاث دورات وزارية حسب، بل كانتا وما تزالان تكمنان في جوهر النظام السياسي الطائفي القائم، وما انتجه من محاصصة طائفية مذلة لهوية المواطنة، باعتبارها الوليد الشرعي الرئيسي، وليس الوحيد، لهذا النظام، ومنه ولد الفساد والإرهاب أيضاً.
يبدو إن رئيس وزراء العراق لم يفقد البوصلة الإيديولوجية الشخصية، بوصلة حزبه الفكرية والسياسية، بخلاف ما يعتقد به البعض، فالرجل أمين لأيديولوجيته، ولم يتزعزع عنها قيد أنملة.
ولا يرى في وعود الإصلاح إلا عبور الأزمة التي يعتقد إنها ستحل بكسب الوقت، وعبور مطالبة المرجعية بالإصلاح عبر تشكيلة وزارية لا تحل ولا تربط، وعبور المظاهرات والاعتصامات، واتهامها بالإخلال في حركة واشغال الناس، وبالتالي التوجه لمعالجتها بأساليب أخرى وإصدار أوامر سرية بسبل التعامل معها! إن الرجل لا يخشى حزبه، بل يخشى على النظام السياسي الطائفي الذي يقوده حزبه وتحالفه الوطني!
فهو رجل يعتقد بأن الشعب سيسمح له بهذه المناورات البائسة منذ تسلمه للسلطة في آب، أغسطس 2014، وسيكف عن المطالبة بما يجب أن يحصل.
على رئيس الحكومة وحزبه وتحالفه أن يدركوا جميعاً المسائل التالية:
تنامي الوعي الاجتماعي المناهض للحكم الطائفي السياسي، لما تسبب به من اجتياح واحتلال وموت وخراب ودمار واسع وفقر مدقع لنسبة عالية من سكان العراق، وفساد هائل، كما إن انهيار أسعار النقط الخام زاد الأمر سوءاً.
اتساع القاعدة الاجتماعية الشعبية التي لم تعد قادرة على العيش في ظل هذه الأوضاع البائسة والمتدهورة بسرعة فائقة.
كما لم يعد في مقدور الأحزاب والحكام الحالين، رغم مناوراتهم، الاستمرار بحكم البلاد بالطريقة التي حكموا فيها خلال السنوات الـ 12 المنصرمة.
وفي ظل هذه الأوضاع بدأ يتشكل تحالف اجتماعي في الشارع العراقي قوامه قوى اجتماعية عديدة، منها: جماهير واسعة محرومة ومضطهدة، بسبب الظلم والفقر والتمييز والتهميش، فئات من البرجوازية الصغيرة والبرجوازية المتوسطة، التي لم تعد قادرة على تأمين عيشها وعملها، فبدأت أوساط منها بالهجرة، جمهرة واسعة ومُلهِمة من فئة المثقفين والمثقفات.
هذا التحالف العفوي الذي فرضه الشارع بين قوى مدنية، وبعض القوى الدينية، يمكن أن يلعب دوراً أفضل وأوسع شعبياً لو تبلور بشعارات سياسية ذات طبيعة وأهداف ديمقراطية ملموسة تسرع في تغيير النظام الطائفي، رغم القلق المشروع الذي يصاحب الموقف مثل هذا التحالف.
وإزاء هذا الوضع ارتفع صوت الجميع بنداء الإصلاح، سواء أكانوا حكاماً، أم قوى معارضة للحكم، أم المرجعي الدينية الشيعية إلى كانت حتى الأمس القريب مؤيدة وداعمة للنظام السياسي الطائفي ونحبه الحاكمة، التي بدأت تتحدث عن المجتمع المدني!
ولكن هذه القوى التي تنادي بالإصلاح متباينة في ما بينها بما تريده من عملية الإصلاح، هل هي عملية شكلية لا تغيير للنظام ومحاصصاته والذي لم يعد مقبولاً، أم عملية إصلاح جذرية، بمعنى التغيير السلمي الديمقراطي الفعلي للنظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية باتجاه إقامة الدولة المدنية الديمقراطية التي تعتمد مبدأ المواطنة وتبني المجتمع المدني الديمقراطي.
والحاكم الجديد، بتشكيلته الوزارية الجديدة، التي فيها عناصر مهنية نزيهة، لا يحل مشكلة طائفية النظام، بسبب وقوفه إلى جانب الإصلاح الشكلي والجزئي، مبتعداً بذلك عن الإصلاح الجذري، ويعتقد أنه قادر بذلك على تجاوز مطالب الحراك المدني الشعبي والاعتصامات الشعبية!
أرى أنه لم يتعلم من دروس الماضي، ولن يغفر له التاريخ!