وصلنا كريم مساءً، طلب أن نخرج الى السوق للحديث في بعض شؤون رحلة الهروب. أكد أنَّ رفاقه في العمارة جاهزون لمساعدتنا، وغداً نكون في العمارة وبعدها في إيران.
طلب كريم منا 50 ألف دينار عراقي أجرة لعمله، وهو مبلغ جيد مع هبوط الأسعار. في تلك الأثناء وبينما كنًا نسير في السوق ناداه شباب من جهة الشارع الأخرى، تركنا لفترة ثم عاد فرحاً، ما الأمر يا كريم نراك مسروراً؟ قال:"اعتقد أنَّ الحظ حليفكم والأمور ستسير على ما يرام"، ثم واصل كلامه...هذان شابان من السادة يرومان الذهاب الى إيران أيضا، لديهم أعمام ومعارف كثيرون هناك، والدهم في أستراليا ويبدو أنّهم في طريقهم اليه، ربّما ينفعونكم ويساعدونكم أيضا! تقدّم نحونا شابان وسيمان، لؤي في ربيعه التاسع عشر وعدي في الثامن عشر منه، صافحانا بحرارة مطمئنة، قالا إنّهما يعرفان ما غايتنا ومن نكون وإنَّهما سعداء بصحبتنا!
بدا أنَّ كريم معروف على نطاق واسع في الغراف كمهرّب للأشخاص الى إيران.
لم نعترض على وجود لؤي وعدي معنا، لكنّ المشكلة في مسألة هروبهم من الجيش وعملية وصولهم للعمارة غير مضمونة مع كثرة النقاط العسكرية.
يا إلهي... كيف لقلوب خائفة بهذا النوع من المشاكل؟
لابأس، فلكلّ مشكلة حلّ، وتمكن الأخوان عدي ولؤي من الاستنجاد بقريب لهما برتبة مقدم في الجيش لينقلهما بسيارته الخاصة الى العمارة. أما أنا وصديقي عباس، فقرّرنا مغادرة الناصرية الى العمارة، حيث بوسعنا انتظار كريم والأخوين في بيت (علي) قريب صديقي عباس.
اتذكر أنَّ علي كان موظفاً في دائرة التسجيل العقاري، وهو شاب قصير القامة بشكل لافت وبساقين مقوّستين، بشوش ومرح ويبدو أنّه لم يخدم في الجيش أبداً ويعيش بشكل جيّد من عمله في دائرة العقاري.
اصطحبنا إلى بيته وكان في غاية الكرم، أبلغه عباس أنّه جاء للعمارة لمتابعة معاملة تسريحه من الجيش وإني معه لمساعدته باعتباري ضابطاً وأعرف أحد الضباط في دائرة تجنيد العمارة! أمضينا يومين في بيت علي حتى التحق كريم والأخوان بنا، خرجنا من بيت علي إلى فندق في مركز مدينة العمارة التي أراها لأوّل مرّة، بتنا في الفندق، لكن كريم غادرنا مبكراً على أن يعود لنا بعد استطلاع الطريق. ذلك الصباح، جلست ساعات على ضفة نهر دجلة، بالقرب من تمثال "تسواهن" الذي يخلّد بطولة نساء الهور المدافعات عن العراق، جلست وكأنّي أرى دجلة لأوّل مرّة، ربّما لأنّي لم أره مارّاً بالعمارة من قبل، كم راودني في تلك اللحظات شعور غامر بجمال المدينة وعراقتها!
عاد كريم ظهراً وانطلقنا في سيارة صغيرة الى الكحلاء، نزلنا عند مقهى شبه مهجور، ثمة أشخاص على الجانب الآخر من السوق ينظرون لنا كغرباء مريبين. ركن صاحب سيارة حمل جانبا، أطلّ كريم برأسه من مقدمة السيارة وأومأ لي، قفزت الى جانبه، ثم قفز الآخرون، عباس ولؤي وعدي في حوض السيارة.شكر كريم صاحب السيارة على صنيعه وثقته بِنَا. وبعد أن سارت السيارة مدّة نصف ساعة أو أكثر على سدّة ترابية محاذية للهور، طلب كريم أن ننزل ونلبس الدشاديش وننقسم على مجموعتين.
لبست الدشداشة فوق ملابسي المدنية ولبس عباس دشداشة رصاصية اللون مع شماغ عتيق جداً. بسحنته السمراء وملابسه الرثّة بدا لي عباس وكأنّه من سكنة الأهوار حقاً! كلّ شيء جاهز الآن للتوجّه صوب الكحلاء وجهتنا ما قبل الأخيرة الى إيران، المهرّب كريم، ونحن بملابسنا التنكرية. كان حدسي الشخصي أنَّ ثمة مشاكل غير قليلة في انتظارنا، لكن مالم يخطر لي على بال أنّها قريبة منَّا الى هذا الحدّ، فبمجرد سيرنا خطوات معدودة جاءت سيارة فوج الطوارئ باتجاهنا، تمتمت بداخلي.. افففف.. أي حظّ نحس هذا!
وصل معدل الادرينالين الى ذروته في جسدي، شعرت أنَّ كلَّ شيء انتهى وسيتم القبض علينا بتهمة محاولة تجاوز الحدود، لم أكن مستعداً للإجابة عن أي سؤال بشأن تواجدي في ذلك المكان.
اقتربت السيارة وفي حوضها الخلفي جنديان ينظران باتجاهنا، تجمّد الدّم في عروقي، أشحت بوجهي باتجاه الهور متظاهراً بالحديث مع زميلي، مرّت السيارة بقربنا واكتفى الجنديان بالسلام علينا!
ارتجف كريم وفقد القدرة على الكلام، يبدو أنّه لم يكن يتوقع ذلك أبداً، نزلنا من السدّة الترابية باتجاه الهور، استقبلنا شخص نحيف مع بلم (مشحوف) صغير، وبينما نحاول الصعود للمشحوف لاحت مرّة أخرى سيارة عسكرية فوق السدّة القريبة منّا، طلب صاحب المشحوف منا القفز للماء سريعاً والاختباء خلف قصبات البردي حتى تمرّ السيارة العسكرية، في غضون ثوانٍ، غمر الخوف قلوبنا والماء أجسادنا حدّ الخصر وسط نباتات البردي! مرّ خوفنا بسلام!
في أحيان كثيرة تمرّ لحظات الخوف دون خسائر، لكنَّها تترك ندوباً غائرة في الروح، هذا ما حدث لنا مع سيارة العسكر. عاودنا الصعود الى المشحوف بعد الاطمئنان أن لا عسكر في الأفق، سرنا مسافة عبرنا خلالها المياه الضحلة، ثم ترجّلنا مشياً على الأقدام وتركنا المشحوف خلفنا. وصلنا الى اليابسة، استقبلنا شاب رشيق يرتدي دشداشة وسترة متواضعة اسمه نعيّم، أوصاه المهرب كريم بِنَا خيراً، ثم ودّعنا وعاد الى الناصرية. قال مهرّبنا الجديد نعيّم وهو من عشيرة الشغانبة: أنتم في أمان الآن، هذه أراضي العشيرة وحدودها، صدام وعسكره لن يصلوا هنا، قالها بنوع من الزهو، لكنّه ألمح الى وجود ساتر ترابي أخير أمامنا تمرّ عليه دوريات للجيش العراقي، ثم بعد ذلك نكون بأمان. تركت ملاحظة نعيم الأخيرة بشأن الدوريات خشية في قلبي، لكن الإصرار على مواصلة رحلة المخاطر خيارنا الوحيد. انتظر نعيم رفيقه (حسن) ليلتحق بِنَا ويبدأ المسير، بعد قليل جاء حسن، وهو شاب في الثلاثين من عمره بأنف كبير وسواعد قوية، يضع على رأسه المثلث غترة بيضاء بلا ترتيب.
هيا بِنَا في رحلة نعيّم وحسن!
مقر الوزارة!
بمعيّة حسن ونعيّم انطلقنا نحن الأربعة نحو الرابعة عصراً بين بيوتات القصب وبمحاذاة المسطحات المائية، لكن نعيم أكد أنّنا لم نصل الهور بعد. على مسافة قريبة من البيوت التحق بِنَا مجموعة من الأشخاص ذاهبين للصيد وسط الهور، كان أحدهم يحمل ماكنة خياطة على رأسه لغرض بيعها الى عرب إيران الذين يلتقيهم بالهور، لمحنا امرأةً عجوزاً تمشي خلفهم وتدعو لهم بسلامة العودة، ولم تنس أن تدعو لنا بحفظ العناية الإلهية مشفوعة ببركة العباس "ابو فاضل".
سألت نعيم أكثر من مرّة هل نحن في أمان الآن؟
هل علينا أن نعبر أي عسكر أو جيش لصدام؟
ما أثار قلقي أنّه لم يكن يجزم بذلك، لكن يكرّر مقولة: إنّنا سنكون بأمان!
كانت أجوبة مقتضبة وغير مطمئنة أبداً.
خيّم الظلام ونحن بين ماشين أو عابرين لمياه ضحلة وقفز حول السواقي، كان نعيّم يحذّرنا من هجوم الخنازير البرية التي تسكن الأحراش اذا ما شعرت بالخطر.
طلب نعيم من الجميع التّوقف ريثما يستطلع ساتر التراب العراقي الأخير، أكد أنَّه أهم نقطة للعبور، فالجنود العراقيون عادة ما يسيرون فوقه، لكن بلا رغبة حقيقية في التّصادم مع المهرّبين أو متجاوزي الحدود. كان لدى نعيم اعتقاد راسخ، أن الجنود يخشون المهرّبين أكثر من خشيتهم لهم، ولم يتردّد في القول إنّه سيقتلهم إن بدرت أي حركة منهم.
أخذ نعيم وضع التأهب للرمي فوق الساتر وأومأ لنا بالعبور، قفزنا بأقلّ من دقيقة وعبرنا الساتر جميعاً، ثم التحق بِنَا نعيم خلال دقيقة وبدا أكثر ارتياحاً هذه المرّة، مؤكدا أنّنا بأمان ولن نشاهد عسكرياً عراقياً بعد الآن. سرنا خلف الساتر وسط ظلام دامس وأرض يابسة بعد أن قطع نظام صدام الماء عنها، كان الأمر مؤلماً نفسياً وبدنياً، حيث وخزت أقدامنا كثيراً بقايا أسلاك شائكة وقطع حديد متناثرة. وصلنا منتصف الليل عند مجموعة صيادين يجلسون قرب حاوية عسكرية مهجورة على حافة الهور، رحبوا بِنَا وسألوا نعيّم عن نوع البضاعة التي يحملها معه هذه المرّة وإن كان فيها طبيب! أشار أحدهم الى عباس، بدا لنا أن لهم تجارب تهريب سابقة مع أطباء مثلنا!
كان الصيادون يحشون مؤخرات صراصير ميتة بمادة سميّة وينثروها بالماء لصيد الطيور! وسط جو شديد البرودة تراصفنا مع بَعضنا طمعاً بدفء مفقود، كانت ملابسنا غطاءنا الوحيد! وبرغم برودة الجو القاسية، كان البعوض كثيفاً وشرساً بطريقة وحشية.
بالكاد أغمضنا عيوننا، وعند الفجر قفزنا مذعورين على صوت عباس وهو يصرخ عالياً بطريقة غير مفهومة نتيجة كابوس مخيف رآه في منامه.
في الصباح، وصل أحدهم بمشحوف رفقة شخصين، سأله نعيّم إن كان يرغب في بيع بضاعته! وهي إشارة الى الرجلين مع صاحب المشحوف، كان نعيّم مستعداً لأخذهم منه وإيصالهم الى حيث يريدون مقابل المال، لكن صاحب المشحوف رفض بيع بضاعته!
في الصباح أيضاً، اصطاد حسن بعض الأسماك وعمل عجينة طحين، أشعلَ ناراً من قصب يابس، وضع الأسماك بأحشائها تحت النار والعجينة فوقها وخلال بضع دقائق أصبح الفطور جاهزاً!
أكل كلّ منا نتفة من الخبز الممزوج بسخام النار ولحم السمك، كان إفطاراً شهيّاً فعلاً، ربما نتيجة جوعنا أو لغرابة الوجبة الغذائية بالنسبة لنا. عند الضحى، سار مشحوفنا نحن الأربعة مع حسن ونعيّم باتجاه مقرات المعارضة العراقية، كانت المرّة الأولى التي أشاهد فيها هوراً حقيقياً، مياهه صافية في ممرات كأنّها شوارع بلورية وأعشابه مائية بألوان متموجة، بعضها عال يخفي الكثير خلفه، وبعضها قصير ومثالي للرصد والصيد. كان حسن ونعيّم يستخدمون المجاذيف في عملية سير المشحوف، ويستخدمون المردي (عصا غليظة وطويلة) لعملية الدفع والإسناد في الاستدارات والانحناءات بعد ارتكازها في القاع. عند الواحدة ظهراً دخلنا مسطحاً مائياً رائعاً، طيور في السماء وسرب بجعات على ظهر الماء، منظر بهي أعطاني دفقة أمل وسط ذلك الألم والمجهول، وفي نهاية المسطح المائي وصلنا الى مقر الوزارة! كانت الوزارة عبارة عن مجموعة عراقية مرتبطة بالمخابرات الإيرانية، يرأسها (أبو زينب الخالصي). وجدنا في الوزارة رجلين في الأربعين من العمر، رحبوا بِنَا وهنؤونا بسلامة الوصول، أخذا بعض المعلومات الأولية عنّا ثم اقترحا أن نبقى أنا وعباس معهما ويذهب عدي ولؤي إلى مقر (المجلس)، فلديهم معارف وأقارب هناك.
ودّعنا الأخوان وبقينا في مقر الوزارة. حاول رجلا الوزارة استحصال دخول رسمي لنا وأرسلوا برقية بهذا الخصوص، بقينا الليل معهما، ثم التحق بهما شخصان، كان أحدهما شاباً أسمر لم يبدُ سعيداً بالنسبة لي، يتحدّث باقتضاب وبادرني بسؤال عن الوحدة العسكرية وموقع الفرقة 11 في الجيش العراقي. استمر الحديث بيني وبينه عن وضع الجيش والدولة، قال بصورة بدت لي غير مناسبة: أنا متعلم أيضا ولست أقل شأناً منك!
عرفت لاحقا أنّه "سنيّ" متحوّل ويعمل في معارضة النظام. أما الشاب الآخر، فكان يتحدّث بأريحية واضحة، عرفنا أنّه من مدينة العمارة ويدخلها باستمرار في مهمّات خاصة لتصفية رفاق حزبيين أو عناصر أمن.
ذكر أنَّه قبض في إحدى المرات على عنصر أمن وسط الهور، ثم اقتاده إلى مقر الوزارة وربطه عارياً طوال الليل وتسلّى برش الماء عليه كلّ ساعة في جو بارد جدّاً ثم أطلق النار عليه صباحاً ورماه في مياه الهور. في تلك الأثناء، تذكّرت أنّ لي ابن عمّة اسمه (حسين) اختفى في الهور وكان عنصر أمن نُقل من قضاء بدرة الى العمارة، سألت الشاب عن اسم عنصر الأمن، فقال: لا أذكر! لم استشف أي رؤيا أو فهم لوضع العراقي الكارثي من جماعة الوزارة المعارضين للنظام، لكن المفاجأة، بالنسبة لي، وأنا الخارج للتو من العراق، أنَّ الرجال يطلقون على الخميني صفة "الإمام" في حين تعودت أذني لسنوات طويلة، وعبر وسائل إعلام النظام على إطلاق صفة "الدجّال" على الخميني وليس الإمام!
في صباح اليوم التالي عاد إلينا عدي ولؤي، لم يجدا منفذاً للدخول الى إيران، وبذات الوقت وردت برقية بعدم القبول بدخولنا أيضاً! في الحال دار نقاش سريع بيننا، أنا وعباس قرّرنا عدم العودة الى العراق حتى لو بقينا في الوزارة طويلاً واقترح أحد رجالها الدخول الى إيران عن طريق التهريب أيضاً! عاد حسن ونعيم الى الكحلاء بعد وداعهما لنا في مقر الوزارة.
عقب ذلك، جاء شخص نحيف ومعه شختورة (مشحوف يعمل بماطور وليس بالتجذيف)، وقال إنَّه يستطيع أخذنا الى الجانب الإيراني من الهور مقابل 50 دولاراً، ومن هناك سيجد من يأخذنا إلى إيران، لم يكن لنا خيار آخر سوى الموافقة.
بقينا ساعات عديدة وسط (الشختورة)، نعبر ممرات مائية ضيقة جدّاً على شكل متاهة، وكان الرجل يعرف كيف يحدّد اتجاهنا بالتّوقف كلّ فترة ليطلق أصواتاً غير مفهومة مثل: هووووو، هوووو وينتظر من يجيب بنفس الصوت ليذهب باتجاهه.
وصلنا نهاية النهار عند مجموعة سمّاكين هم خليط من عراقيين وأحوازيين (عرب إيران) يتحدّثون بلهجة عراقية جنوبية، لم يكن سهلاً علينا التمييز بينهم لولا إنَّهم أخبرونا ذلك!
أبدى أحدهم ويدعى (ابو حسين)، وهو رجل أربعيني يلفّ وجهه بشماغ طوال الوقت، استعداده لأخذنا الى الحويزة برفقة صديقه (كاظم) وهو شاب يبدو جاهلاً من خلال طريقته في الحديث، يسكن كلاهما في الحويزة كعراقيين مهجرين. طلبوا 100 دولار لكلّ واحد منهما، واشترطوا الاستلام في الحال، مرّة أخرى ليس أمامنا سوى الموافقة، لكنا طلبنا منهم أخذنا إلى بيت أحدهم ليتسنى لنا الاتصال بأقارب عدي ولؤي، عبر رقم هاتف يحتفظ به الأخوان. رحب أبو حسين بفكرة استضافتنا في بيته، بعدها قرّرنا أن يكون موعد انطلاق رحلتنا عند غروب اليوم التالي، بسبب عدم إمكان تجاوز الساتر الإيراني أثناء النهار.
قضينا النهار وسط الهور، وبعد الغداء جاء أبو حسين وكاظم بمشحوف، ركبنا المشحوف وسط الأحراش وعند المغيب وصلنا الى أطراف الهور من جهة إيران، كانت المياه ضحلة وتتطلّب سيراً على الأقدام، نزلنا من المشحوب وصادفتنا سلحفاة عملاقة تمشي بهدوء فوق أعشاب مائية جميلة، قفز فوقها كاظم وحطم قحفها بأخمص بندقيته، صرخت به.. لماذا.. لماذا قتلتها؟ ترك ذلك المنظر طعنة في روحي حتى الآن، رأيت الكثير من مناظر العداء للبيئة والطيور والحيوانات في الهور، كان ومازال قتل الطيور بطريقة عشوائية وعدائية خالصة أمراً معتاداً، التصويب بالبندقية باتجاه أي حيوان مائي وقتله منظر مؤلم لكنَّه مألوف جدّاً في الهور ولا يجد من يستنكره أو يستهجنه. اتذكر مثلاً، حين كنّا في مقر الوزارة، وفي وقت الغداء تحديداً، اقترب طمعاً بفتات طعام باطمئنان قلق نحونا طائر جميل يسمونه (الهليچي) وهو طائر لا يأكله أهل الهور، وفي لحظة اقترابه المشؤومة تلك تناول أحدهم قطعة خشب قريبة وضربه على رأسه ليقتله في الحال!
آلمني جدّاً ذلك المنظر وعندما سألت الشخص لماذا قتله؟ استغرب من سؤالي غير الوجيه وقال: إنّه مجرد هليچي!
ليلة 12 كانون الأول عام 1996، بدأ المطر بالهطول وسط ظلام دامس وجو بارد، كانت زخات مطر عادية، لكن مع وجود ريح سريعة بدت مزعجة تماماً، خلال ذلك، صرنا نرى أضواءً خافتة جدّاً لمدينة الحويزة. أخبرونا أنّنا سنكون هناك في غضون 10 الى 12 ساعة. كانت الدوريات الإيرانية فعّالة ويقظة طوال الليل، علينا الحذر الشديد، وقوعنا في قبضة الإيرانيين يعني تسفيرنا والعودة بنا الى سجون صدام.