في مستشفى الملكة اليزابيث
استغرقت امتحانات اللغة الإنكليزية وامتحان معادلة شهادة الطب سنة كاملة، أصبحت بعدها جاهزاً للعمل طبيباً، لكنّ عملية البحث عن فرصة عمل مهمة ليست سهلة، عليك أن تسعى وتقدّم نفسك وأوراقك الى المستشفيات، فلا أحد يعرض عليك العمل ما لم تسعَ اليه بنفسك.
قمت بإرسال 50 رسالة الى 50 مستشفى مرفقة بكتاب تعريف وشهادة نجاحي في الامتحانات مع سيرة بالخبرة العملية، انتظرت 4 أشهر حتى تلقيت عرضا رسمياً في العمل بمستشفى كبير في ادليد عاصمة جنوب أستراليا. ذات ظهيرة، وبينما كنت أسير في أحد شوارع مدينة بيرث، اتصلت بي سيدة وأخبرتني أنَّ اثنين من أطباء مستشفى الملكة اليزابيث يريدون مقابلتي عبر الهاتف، ليعرفوا مدى جاهزيتي للعمل.
كان أحد المتّصلين طبيبة متخصصة في أمراض القلب، فسألتني عن الذبحة الصدرية وآلامها وكيفية تشخيصها ومتى يتوجّب عليّ طلب مساعدة من هو أكثر خبرة مني، وهو سؤال يتردّد كثيراً لمعرفة مدى وعي الطبيب الجديد بخبرته وإمكانيته، ثم بادرني الطبيب الآخر بسؤال عن الربو وطرق علاجه.
شكروني وأغلقوا الخط، وبعد أقل من عشر دقائق عاودت السيدة الاتصال بي قائلة: مبروك دكتور، تمّ قبولك للعمل في مستشفى الملكة إليزابيث التعليمي التابع لجامعة ادليد العريقة وعليك المباشرة خلال أسبوع!
لم أصدق الأمر ولم تسعني فرحتي، العمل في أستراليا يفتح أبواب المجتمع والحياة على مصراعيها، ويحقّق كلّ سبل العيش الكريم، أما لو عشت دهراً دون عمل فلن يعرفك أحد.
استلفت مبلغ بطاقة السفر الى جنوب أستراليا من قريب وصديق لي في بيرث ورحلت في غضون أيام.
عقب وصولي مباشرة، قمت باستئجار شقّة صغيرة قريبة من المستشفى مع زميل أيام اليمن الدكتور اسماعيل البدراني، ليتسنّى الذهاب سيراً على الأقدام مع عدم امتلاكي سيارة خاصّة. في 20 كانون الاول عام 2002، باشرت في قسم الطوارئ، أذكر أنَّ اختصاصي طوارئ الدكتور جيمس استقبلني وقدّم نفسه بدون لقب دكتور أو اختصاصي، لكنّه قدمّ نفسه باعتباره أحد الأطباء العاملين في القسم.
جيمس في الخمسين من العمر، بشعر أبيض تماما وَلكْنَة إيرلندية صعبة الفهم، أخذني في جولة تعريفية في قسم الطوارئ، تضمّنت غرفة الإنعاش وبقية الغرف وعرّفني بمكان الحمامات وغرف استراحة الأطباء ومكان الطعام.
تفاجأت أنَّ المستشفى لا يقدّم الى الموظفين أي وجبة غذاء ويعملون بما يطلق عليه orientation اي (التوجيه)، وهو شيء لم اعتد عليه قبل ذلك.
في أول يوم عمل شعرت بخوف وقلق بدا واضحاً عليّ، فالحديث يتمّ عبر اللغة الإنكليزية مع الجميع وما زالت غير واثق من لغتي أو accent، إضافة الى لفظ بعض الحروف مثل P، غير الموجودة في اللغة العربية والمتحدّثون العرب يلفظونها غالبا مثل حرف B.
جوهر الطب واحد في كلّ مكان، أساسه التشخيص والمعالجة، لكنّي اكتشفت فرقاً جوهرياً بين طريقتنا في علاج المريض في العراق، وعلاجه في أستراليا.
نعم كنّا في العراق نشخّص ونعالج، لكن ثمة فرق اساسي هنا يتعلّق بأسلوب أو نهج المعالجة approach، حيث يتمّ التشديد عليه، الى جانب التأكيد على التخاطب والتحاور مع المريض communications. على أنَّي لا أحبّ أبدا طريقة استخدام التلفون في إيجاز حالة المريض واستشارة الاختصاصات الأخرى في الحالات الطارئة، خاصّة عندما أعرف أنَّ الطبيب على الجانب الآخر لا يفهمني أحياناً. مع ذلك، اكتشفت أنَّ الأطباء عموماً لا يتحرّجون من قول كلمة "لا أعرف" حتى لو كانوا اختصاصيين، بل ويطلب منك الاختصاصي البحث عن العلاج في الكتب المرشدة لطبّ الطوارئ، وقد يتولَّى الاختصاصي نفسه مهمة البحث عنها ويفرح، حينما يجد الجواب المناسب أيما فرح! في أيامي الأولى، جاء مريض للطوارئ يشكو من الحمّى بعد عودته من سفرة إلى آسيا، فتوقّعت إصابته بمرض الملاريا وفعلا ثبت ذلك، حينذاك، جلس الاختصاصي يستمع لي بإعجاب وأنا أشرح له أنواع مرض الملاريا وطرق علاجها، إذ إنَّه لم يصادف حالة ملاريا واحدة خلال سنين عمله، فيما تعرّفت على حالات كثيرة أثناء عملي في اليمن. يبدو إنَ العمل في دول العالم الثالث ليس بلا فائدة دائماً.
على الطبيب المهاجر أن يبذل جهداً مضاعفاً لتطوير نفسه ليصل الى مستوى نظرائه من أبناء البلد.
لم أشعر بحالة تمييز أو عنصرية ضدي أبداً، فالميزان في أستراليا هو مقدار التزامك وتفانيك في العمل.
حفظ التواقيت مهم جدّاً، ولا يجوز أبداً مغادرة العمل الا بعد اتمام عدد الساعات بالتمام والكمال.
اعتاد زميل عراقي على المغادرة قبل نصف ساعة من نهاية عمله وعندما نبّهته إدارة المستشفى على ذلك، اعتبر الأمر استهدافاً شخصياً! أكملت سنة كاملة متنقّلا بين أقسام الباطنية وأمراض الكلى والجراحة والنسائية، اكتشفت خلالها المتعة ولذّة العمل في مهنة الطب، خاصّة مع جريان كلّ شيء وفق سياقات علمية صحيحة، ومع انتهاء السنة الأولى، انهيت فترة الإقامة الدورية بتقييم جيّد جدّا وبتجديد عقد العمل سنة أخرى، وذلك يعتمد على حسن الأداء.
كذبة اليمن
قبل هبوب حرب عاصفة الصحراء 2003 بقليل بدأت التحضير لدخول امتحان الطب العملي الذي يمنحني عضوية كاملة في نقابة الأطباء ويتيح لي حرية العمل بأي مستشفى ويؤهلني للدخول في أي برنامج اختصاص.
حرب على الأبواب في بلادي، قوافل الجيوش الغربية تتكدّس في مياه الخليج الدافئة، أرى وأسمع استعداداتها المتواصلة وخمّنت وقوعها الوشيك.
تحمّست للحرب لا حبّاً بها، فقد اختبرت فظائعها من قبل، لكنّي وجدتها محاولة أخيرة لإزاحة صدام وعصابته عن حكم العراق، بعدها يمكن الشروع في بناء عراق متطوّر مندمج بالعالم وليس مكروها ومعزولا عنه.
بدأت الحرب أثناء عملي في قسم الطوارئ، أربكني الأمر وأضعف قدرتي على التركيز، فطلب مني رئيس القسم المغادر في استراحة لبضعة أيام.
أرى وأسمع حمم النار تتساقط على العراق ولا حيلة لي سوى البكاء والتّضرُّع، الا تصيب حممها غير صدام، على أنَّي لم افتقد المتعة تماماً بسبب مؤتمرات وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف المضحكة.
أذكر أنَّ زميلا أميركياً في القسم صار يحاورني يومياً عن توقعات الحرب ونهايتها المحتملة، كان يسمع أن مدينة الناصرية تقاوم قوات الاحتلال، فأخبرته بعملي فيها قبل مغادرتي العراق، حتى أنَّي رأيت المستشفى العسكري الذي عملت به من على شاشة التلفاز!
ليلة سقوط التمثال في ساحة الفردوس اتّصل بي زملاء أستراليون وهنود وعراقيون مهنئين بنهاية الحرب وعهد صدام.
انتهت الحرب بسرعة خاطفة، فعدت للتركيز على امتحان الطب العملي، لم تكن استعداداتي سيئة، لكنَّها غير كافية لاجتياز الامتحان، لذلك لم اجتزه بسبب خطأ فني وليس طبّياً.
كانت إحدى حالات امتحان مادة النسائية حمل خارج الرحم، فطلبت من زوج المريضة أن يأخذها الى مستشفى بعيد وذلك تصرّف خاطئ، لأنه عرّض حياة المريضة الى الخطر، وكان الأصح أن أطلب لها سيارة الإسعاف. المهم، وصلتني نتيجة الامتحان مع رسالة قصيرة تنبهي على عدم تقديري لخطورة حالة المرأة، وطلب مني إعادة المحاولة، الأمر الذي أشعرني بمرارة وخيبة، فلم يسبق أن أخفقت أبداً في حياتي الدراسية، باستثناء رسوبي في امتحان مادة الأدوية الفصلي في المرحلة الثالثة من كلية الطب، ومع ذلك واصلت عملي وتهيّأت لإعادة المحاولة. في تلك الأيام عملت على تطوير مهاراتي الطبية واللغوية، تطوّرت كثيرا، بحيث صرت أرى ثقة زملائي واعتمادهم عليّ، خاصّة بعد تسلّمي منصب مقيم أقدم في الطوارئ نهاية عام 2003.
سقوط نظام صدام جلب لنا أخباراً غير مطمئنة وبدأ الحديث يدور عن إعادة أصحاب الإقامة المؤقتة الى العراق بعد رحيل صدام. أصابني قلق حقيقي على وضعي القانوني واحتمال عودتي القسرية الى بلاد تعصف بها الحرب ويأكلها التناحر المجتمعي ولا مجال للعودة في ظل هذه الظروف، أما لو اختلف الأمر، فالعودة الى الأهل والبلاد سعادة لا توصف.
منتصف عام 2004، تقدّمت مرّة أخرى لامتحان الطب العملي، اجتزته بنجاح وبدرجة كاملة، فحصلت على عضوية نقابة الأطباء الأسترالية.
في تلك الأيام أيضاً، تلقيّت اتصالا مفجعاً من زميل في ولاية بيرث، بشأن وفاة صديقي ورفيق رحلتي الدكتور بهاء في حادث سيارة رهيب! أحزنني الأمر كثيراً، لكن الحياة لن تتوقف على أي حال، وباشرت الدراسة والتدريب لنيل الاختصاص في طب الطوارئ الذي أحببته جدّاً، حيث أرى فيه يوميا، التّنوُّع، اليقظة الدائمة، القرارات الحازمة وإنقاذ حياة البشر. لحسن الحظ، كانت أستراليا أيامها، في حاجة ماسّة الى أطباء وفتحت دائرة الهجرة للمستشفيات نظام كفالة الطبيب العامل لديها لأجل منحه إقامة دائمة. تحدّثت مع إدارة المستشفى، فرحّبت بالفكرة ومنحتني عقد عمل لسنتين حتى أستطيع الحصول على إقامة دائمة واتخلّص من شبح العودة القسرية الى العراق.
بعد ذلك دُعيت الى مقابلة موظف الهجرة لإتمام أوراق الإقامة الدائمة، وصلت الى مكتبه ولمحته يمسك إضبارتي في يده، سألني إن كان لدي ما أقوله قبل البدء في الحديث، فهمت ما يقصد حين لمحت ورقة صفراء بارزة وسط الإضبارة كتب عليها (Yemen) مع علامتي استفهام؟؟ شعرت بالحرج، عرفت أن حبل الكذب قصير كما يقال، إذ إنّني لم أذكر قصّة اليمن في استمارات الكمب، في حين ذكرت خبرتي العملية في اليمن أثناء تقديم سيرتي العملية للمستشفيات!
شرحت لموظف الهجرة أسباب ودواعي عدم ذكري قصّة اليمن، فطلب مني معلومات إضافية وسألني عن تفاصيل حياتي فيها، مشدّداً على كتابتها وإرسالها خطيّاً عبر رسالة. في المعدل الطبيعي، تستغرق فترة الحصول على إقامة دائمة عن طريق المستشفى 8 أسابيع لا أكثر، بينما أخذت مني 8 أشهر بسبب كذبة اليمن. انتهى الكابوس أخيراً وحصلت على الإقامة منتصف عام 2005.
عودة الى الحضن الأول
تسع سنوات مرّت بالتمام والكمال على مغادرتي العراق، لم تسمح ظروفي المعقّدة وطبيعة النظام في زيارة الأهل ومرابع الطفولة والأصدقاء. كنت أحسد طبيباً أردنيا يعمل قريباً مني في اليمن على شيء واحد فقط، هو سفره الشهري لزيارة أهله في الأردن.
في أستراليا تغيّر كلّ شيء في حياتي بعد حصولي على الإقامة الدائمة وحصولي على جواز رسمي من السفارة العراقية في العاصمة كانبرا، وذلك أتاح لي فرصة زيارة الأهل عبر الدخول والخروج من المطارات الرسمية، بلا خوف أو قلق.
شتاء عام 2005 حملت شوق السنين ولهفة الغريب لأحطّ في بغداد بعد رحلة طويلة من العذاب والاغتراب. في بوابة المطار طلبت من شاب يجلس وراء مقعد سيارته الصغيرة إيصالي الى ساحة العباس بن فرناس حيث ينتظرني إخوتي وأبناء عمومتي. صعدت قربه في المقعد الأمامي، فانطلق يقود سيارته بسرعة جنونية، توسلته مرّات الا يسرع، فلم يعبأ بتوسلاتي!
عند ساحة ترابية وفي جو بارد قابلت إخوتي وأبناء عمومتي لأوّل مرّة، كان لقاء حميماً يصعب وصفه، دموع غزيرة، حزن شفيف غطى مسافة أيام الفراق الطويل، وفرح مثل فرح الصغار أيام العيد. لاحظت فعل السنين وهول الحرب الأخيرة في وجوه أحبتي، حزنت لآثار الخراب في الطرق والشوارع والأبنية التي فارقتها من زمان.
دخولي حي الأمين، أعاد بنحو غامض شريط ذكريات المدرسة وكرة القدم وأصدقاء الطفولة رغم أنَّه تغيّر كثيراً. وجه أمي لم يتغيّر وصوتها الشجي كما هو ودموعها مدرارة أبداً. شممت رائحة أبي لأوّل مرّة من تسع سنوات، ما زال كما هو وسيماً وأنيقاً، لحظات من الشوق والعناق الحار لا توصف أو تنسى.
ستة أسابيع قضيتها اتزوّد من الأهل والأصدقاء، زرت خلالها، مدينة الناصرية لأجدّد لقائي بالأصدقاء والمحبين من أهلها، زرت الهور، مكان انطلاقي الأوّل في رحلتي السندبادية.
قضيت وسط أهلي وأحبتي أياماً رائعة رغم مخاطر الأمن المتنامية وحالة العنف المجنون التي تعمّ البلاد، ثم عدت الى منفاي الأسترالي، أو لأقل بلادي التي منحتني كلّ شيء، مثلما لم تفعل بلادي الأم!
عدت، لكن بوعي مختلف هذه المرّة لأولوياتي وحياتي، مع تبلور رغبة صادقة في تقديم العون لأهلي بطريقة أكثر من ذي قبل، خاصّة بعد معاينتي لحالهم ولوضع البلاد غير المستقر تماما ونذر الحرب الأهلية التي تلوح في الأفق المعتم، صمّمت أن أكون لهم سنداً وعونا.
أستراليا أرض الفرص والعمل، تتيح حرّية الاختيار وطريقة العيش وبقدر جهد الإنسان وطموحه تتحقّق أحلامه، لا مجال أو مستقبل للكسالى فيها. لذلك قرّرت الابتعاد عن طريق نيل الاختصاص في طب الطوارئ، فهو طويل جدّاً ومردوده المادي قليل مقارنة بخيارات أخرى. وبواقعية صارمة وعملية اهتديت الى العمل طبيباً في الأرياف، فأنا لا أحب المدن المزدحمة وأميل طبيعياً الى العمل في الأرياف ولدي حلم أبدي في امتلاك مزرعة خاصّة. اخترت اختصاص طب الأسرة وحصلت على زمالتها في ثلاث سنوات، ثم اخترت مدينة منم Mannum السياحية الصغيرة المطلّة على نهر ماري الكبير.
لكلّ عراقي ربّما حكاية مع نهر ما، شخصيّاً أحبّ الأنهار بشكل استثنائي، ويسحرني منظر الطيور الواقفة فوق الجذوع الطافية، النهر يشعل فيّ الحنين ويشعرني بالهدوء والدفء. قريب من المدينة ومن محل عملي، حققت حلمي القديم واشتريت مزرعة صغيرة، هي جنتي وأهم عوامل استرخائي، سروري الأكبر يجلبه اعتنائي بحيواناتها الأليفة، بضع أغنام وحيوان لاما، مع كثير من الدجاج والوز والديك الرومي، أما طيور الببغاء بمختلف أشكالها وأنواعها، فتطير فوقي رأسي مثل عصافير العراق!
لا يعكّر صفو العيش في مزرعتي، سوى الثعالب وأخبار العراق الأليمة!