سياسياً، من جهة قد يستغرب البعض تهجم كوريا الشمالية على الولايات المتحدة الاميركية مؤخراً وتصعيدها لمستوى التهديد والوعيد مما ابقى العالم كله على اعصابه ينتظر وقوع كارثة حربية بين الدولتين وما سينتج عنها من مآسي واقتتال واصطفافات الدول حول الطرفين. اما من جهة ثانية، فقد يستغرب البعض ايضاً هجوم السعودية الاخير (قبيل تهديد كوريا الشمالية بقليل) وبدعم من امريكا على قطر ومن يدعمون سياستها من ايران وروسيا. والعديد منا ايضاً وقف مشدوهاً امام تسارع الاحداث وبقي على اعصابه ينتظر وقوع كارثة تطبيق السعودية تهديداتها لقطر وما سيليه من دمار وشقاء واصطفافات دولية وغيرها. كل هذا كان ضمن مخاوف الغرب من تزايد قوة روسيا المتسارعة خصوصاً بعد تمكنها الحصول على القرم في اوكرانيا وفتح ممر البحر الاسود، البوابة الى الشرق الاوسط وتركيا ودول اوروبا.
القاء النظر على العوامل التالية قد يبين لنا ما وراء هذه الخطوات المجنونة: جغرافياً، اذا نظرنا الى خريطة الدنيا لوجدنا الدولة الروسية واراضيها الواسعة تظلل من اقصى جنوب شرقها، كوريا الشمالية ومعبرها الى البحر الاصفر، الى اقصى غربها -ايضاً جنوباً- بوابة البحر الاسود، شبه اقليم القرم. تحرص روسيا على تحريك خيوطها على جانبيها الايمن والايسر كلما دعت الحاجة وكلما لزم الامر في تقديم رسالة الى امريكا.
عسكرياً، قامت القوات الروسية الخاصة والمقنعة ذات اللباس الاخضر بدخول القرم في ليلة باردة من ليالي بدايات عام 2014 حيث وضعت اليد على كل القطاعات والمرافق الحكومية ومنها البرلمان القرمي وتم استبدال رئيس الوزراء بآخر له ولاء لروسيا والقيام بالاستفتاء البرلماني فوراً والتوافق على الصاق القرم بالدولة الروسية رسمياً.
هكذا استرد فلاديمير بوتين القرم التي يعتبرها الروس اورشليم الثانية لما لها من معاني وروابط تاريخية عظيمة لهم. وهكذا ايضاً، فُتحت المعابر من خلال البحر الاسود لمرور الشحن الروسية الى سوريا عبر بواخرهم الحربية الواقعة في تلك المنطقة. في نهايات نفس العام (2014) وفي ليلة اخرى من ليالي كوريا الشمالية القاتمة، قام وفدان رفيعا المستوى ومقربين جداً من رئيس كوريا الشمالية الى زيارة روسيا لمدة اسبوع في كلتي الزيارتين. ومنذ ذلك الحين ومخاوف امريكا تتزايد من ناحية التطور الديبلوماسي الملحوظ بين روسيا وكوريا الشمالية ودعم الاولى للثانية اقتصادياً، بالرغم من تصريحات روسيا العلنية في تنديدها لتعزيز كوريا الشمالية انتاجها للسلاح النووي. ومما يقلق امريكا اكثر هو محاولة الروس في سد الثغرات التي صنعتها الصين حين نفذت بعضاً من العقوبات الاقتصادية على جارتها كوريا الشمالية. يتقن بوتين فن الملاحة في البحرين، الاسود والاصفر، ويعلم متى يشد بخيوط الطرفين. لعبة الشطرنج طويلة بين الغرب والروس، وبوتين يعلم جيداً قوانين هذه اللعبة ومتى يطبق سياسة التشويش في جهة عاكسة لاحد احجاره اذا تهددت. تهددت قطر مؤخراً في الشرق الاوسط من قبل السعودية ومن يدعمها من دول عربية وغربية اولها امريكا. كان دور بوتين في الرد، فحرك في الجهة المعاكسة حيث حليفته كوريا الشمالية وما يربطهما من روابط اقتصادية وحدود نهر التومان الشهير. نجح رئيس كوريا الشمالية كيم جون اون في لفت انتباه دول العالم كله اليه واولها امريكا بقيادة رئيسها ترامب الذي يصفه الكثير بالمتهور والسريع الانفعال والذي –فعلا- ركض مهرولاً وراء "الجزرة" وغرق في محاولاته الرد على كيم جون اون بينما تبحر سفن روسيا بأمان عبر البحر الاسود متجهة نحو الشرق الاوسط. وبينما السعودية تعيد حساباتها من ناحية تنفيذ تهديداتها لقطر الشقيقة.