لم يعجب آمر الوحدة وقوفي بجانب النقيب سيف الكردي وأضمر ما لا يسرني.
مناورات الرائد المالية لم تنته، في أحد الأيام انهى الجندي المكلّف الطبيب علي خدمته العسكرية وتسّرح من الجيش، فجاء بخروف سمين الى الوحدة عوضاً عن الوليمة، ولأني غريزياً أحبّ الحيوانات الأليفة، اعتنيت بالخروف كثيراً وبقي معنا لأسابيع حراً طليقاً يأكل ما نجمعه من بقايا طعامنا أو من الحشائش التي تنبت عند أطراف المياه الآسنة.
اختفى الخروف فجأة، عرفنا بعد أيام، أنّه تحوّل الى نقود في جيب الرائد!
أبديت امتعاضي من طريقة اختفاء الخروف، فصدر أمر نقلي الى السجن المركزي للفرقة 11!
سلمني الرائد كتاب نقلي الى السجن، أمرني أن أسلّم كتاب مباشرتي وأذهب بإجازة ثم التحق بعدها بالسجن المركزي وليس بوحدة الميدان.
انطلقت صباحاً ووصلت الى السجن عند العاشرة، بناية على شكل مربع، استخدمت كمخازن للأسلحة فيما سبق، تميّز رائحتها القذرة على بعد 2000 متر، كما يرشدك طنين ملايين الذباب عليها!
فيها يتكدّس مئات الجنود الفقراء بملابس رثّة او عراة، معظمهم مريض بإسهال مزمن، بعضهم نفذ به قرار قطع الأذن الذي أصدره القائد الهمام بحقّ الهاربين، رغم أنّه لم يخدم في جيش بلاده يوماً واحداً!
كنت أعرف أوضاع السجن من زيارات سابقة.
تفاجأ الطبيب عباس الذي يخدم جندياً مكلفاً بوصولي وتساءل.. كيف سمح النقيب مصطفى بنقلك وأنت من أصدقائه المقربين؟
قلتُ: لا يهمّ، سأخبرك إن عدت من إجازتي، لكني لم التحق بوحدة السجن بعد ذلك، ولم يتسن لي إخبار عباس!
وداع بلا عبرات
عام 1996، مضت نحو ست سنوات على الحصار الدولي المفروض على العراق نتيجة غزوه لدولة الكويت، ضرب جوع الحصار بسوطه المؤلم ظهور الناس. صدام وعصابته يتفنّنون في إيذائهم وإذلالهم، تعرّض خلال ذلك، اثنان الى الكسر الشديد، هيبة الدولة وكرامة الإنسان.
غادرت وحدة الميدان الطبية في إجازتي الدورية نهاية تشرين الثاني 1996، ويفترض أن أعود الى وحدتي العسكرية بعد 10 أيام. كنّا، نحن معشر الضباط، لا نأخذ في العادة نماذج الإجازة معنا كما هو الحال مع الجنود، بل نكتفي بالاتفاق مع الضبّاط الآخرين على موعد المغادرة والالتحاق.
زميلي الملازم أول مؤيد كان الوحيد الذي يعرف أنَّ هذه الإجازة ستكون آخر عهد لي بالجيش، حيث اتفقت مع قريب له يسكن ناحية الغراف، اسمه كريم، على الفرار من العراق عبر الحدود مع إيران، بعد اتفاقي معه في وقت سابق على تفاصيل الهروب، وأكد المهرب من جانبه أنَّ القضية سهلة. كنت مدركاً لموضوع، أنَّ السفر الى إيران في تلك الفترة مسألة معقدة تماماً، فإيران كانت في حالة عداء تام مع العراق رغم انتهاء حرب السنوات الثماني والتواصل مع الأهل سيكون شبه مستحيل. فكيف سأعيش في إيران؟
آلاف العراقيين هربوا الى إيران، سأكون واحداً منهم ولن أكون بحاجة الى نقود كثيرة، هكذا علّلت الأمر لنفسي. يستغرق السير مشياً على الأقدام من مقر الوحدة العسكرية الى كراج بغداد أقل من 10دقائق. كراج حديث، لكنّه يخلو من أي خدمات للمسافرين، مساحته مربعة محاطة بدكاكين فقيرة مع ساحة في المنتصف، يهرع الناس عادة لمطاردة باصات أو سيارات (الريم) عند دخولها الكراج لرخص أسعارها، تستوعب سيارة الريم 44 راكباً، وفي حالات ازدحام الركاب يصل العدد الى الـ50، والسيارة متهرئة بلا تكييف وبمقاعد صلبة، قام العراق بثمانينيات القرن الماضي بإنتاجها بعد حصوله على امتياز تجميع أجزائها من شركة سكانيا السويدية. ومع ذلك، وبرغم خلو السيارة من أي ملمح للرفاه لم تكن متوفرة في أحيان كثيرة، ليتسنى للفقراء، خاصة من الجنود، ركوبها. كان بعضهم يطلب من السائق قبل صعود السيارة عدم مطالبته بأجرة الطريق، لأنَّهم ببساطة لا يملكونها! في ذلك الوقت، كان العراق قد اتفق مع المنظمة الأممية UNعلى صفقة النفط مقابل الغذاء، بحيث يسمح للعراق المحاصر دولياً استيراد الغذاء لمواطنيه مقابل النفط. انعكس القرار بشكل جيد على حياة عموم المواطنين، فالأسعار هبطت كثيراً ومن كان لديه مبلغ بسيط أصبح ذا قيمة مضاعفة.
كلّ ما كان معي من مال هو راتبي من الجيش وعملي في العيادة الشعبية، مبلغ ليس بالكبير، لكنه أتاح لي شيئاً من رفاهية أن استقل سيارة أجرة صغيرة (تكسي) وأن اتجنب امتهان الكرامة في سيارة (الريم).
أربع ساعات، هي مسافة الطريق بين الناصرية وبغداد، لا اتذكر الآن كيف انقضت! نسيت كل معالم الطريق، او يخيّل لي ساعتئذ، عندما تقف السيارة في إحدى النقاط الأمنية على الطريق الطويل، أني رأيتها يوماً!
كنت غارقاً في همّي وكيفية تنفيذ الهروب وعدم الاكتفاء بالحديث عنه والتخطيط له.
قضيت الطريق كلّه في مونولوج داخلي، أسأل نفسي وأجيبها: كيف تترك أمك وأباك، كيف لك أن تؤذيهما؟ ألا يكفي ألم العوز والفقر، وإخوتك الصغار مَنْ لهم بعدك؟ ويستمر الحديث الداخلي الموجع... لا تتراجع يا ولد، ما تقوم به يفعله الشجعان فقط، مستقبل أفضل ينتظرك خارج هذا الجحيم المهين.
أهلك أحوج إليك وأنت تعمل وترسل المال لهم لا جالساً جنبهم وأنت عاجز.
لا تتراجع.. ألم مؤقت تدفع به ألم البقاء الطويل هنا.
نزلت عند مدخل بغداد الجنوبي، مدفوعاً برغبة غير مفهومة للوصول الى البيت بسرعة! كنت مشوشاً جداً وكأنّي أفعل الأشياء لا شعورياً، متفادياً التركيز في تفاصيل البيت ووجوه أهلي.
دخلت البيت، وذهبت حيث يجلس أبي في الغرفة الخلفية، سلّمت عليه وبدأ يمازحني عن الناصرية وأهلها ويرجو لي أن أكون سعيداً معهم.
كنتُ قريبا جداً من أبي، جلستُ اتأمله كأنّي مفارقه للأبد، عيناه الصفراوان والشامة الصغيرة على خدّه الأيسر، لاحظت انحرافاً بسيطاً في أنفه لأوّل مرّة، أحبّك يا أبي جدّا، قلتها في سرّي كثيراً.
لاحظ أبي أجوبتي المقتضبة له على غير العادة، قال لي: بويه "حمد" يبيّن ما مرتاح اليوم ليش؟
كان يناديني بـ"حمد" وهذا أُمر أحببته دائماً، عرفت أبي شجاعاً، عفيف اليد واللسان، ورغم فقره، تمتّع بكرامة واعتداد بالنفس عاليين، أفكر دائماً أنّه (رحمه الله) ينتمي الى طراز الأشخاص الذين أشار لهم القول القرآني:"يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ". شأن أغلب الفلاحين، كان لأبي أبناء كثيرون، هم مصدر ثقته بالحاضر والمستقبل، وغالباً ما يردّد الآية القرآنية: "المال والْبَنُون زينة الحياة الدنيا". مع أنَّ الحياة أتعبت أبي بما يكفي، لكنّه لم يشتكِ يوماً، كان نموذجاً لفلاح مقاتل بلا عدّة، يعيل في مدينة موحشة أطفالاً كثيرين.
حرب إيران الكارثية خطفت أخي ماجد مطلع تشرين الأول 1982 وهو بعمر الثامنة عشر، لم نجد له أثراً الى اليوم! وفي شهر نيسان 1986 كرّرت الحرب ضحكتها الصفراء ثانية بفقدان أخي الأكبر مهدي، تاركاً لنا 3 أيتام وزوجة، لقد تحالف على العائلة الفقر والحرب.
المفارقة أنّي وبعد أشهر قليلة من فاجعة الفقدان، التحقت بالدراسة في كلية الطب، كانت سنة قاسية وموجعة حقّاً، لكنّ حصولي على معدل عالٍ ودخولي كلية الطب منحني إحساسا بقوّة نفسية أكثر منها عضلية. كان الواقع مدمّراً وفوق طاقة البشر على الاحتمال، انهارت كل دفاعاتنا بوجه آفة الحرب، لكن أبي أبدى صلابة وقوّة بوجه تلك المآسي، لقد قاوم بشجاعة، ظلم أن تفقد ابنك البكر وترى البقية يتساقطون تباعاً! خرجت من البيت مودعاً أبي مؤقتاً، ذهبت الى دار صديقي الطبيب العسكري خضير الذي أبدى استعداده للخروج معي متى ما طلبت.
عند بداية شارع بيتهم أوقفني صديق مشترك وطلب عدم الذهاب الى بيت خضير، وعندما سألته عن السبب، قال: "خضير في الأردن الآن!"، يظهر أنه غادر قبل أيام عابراً الحدود بطريقة غير رسمية من دون أن يخبرني بالأمر، هكذا كانت الأمور تجري بحذر وخوف شديدين، بحيث لا يخبر الممنوع من السفر، خاصة الأطباء العسكريين أمثالنا، أقرب المقربين، هذا ما حدث معي ومع خضير وغيرنا كثيرون. اتجهت مباشرة إلى بيت صديق آخر هو الدكتور بهاء، لم يكن عسكرياً، لكنَّه ممنوع من السفر هو الآخر كونه طبيباً.
سألته، إن كان مستعداً للخروج معي فأجاب بالنفي، قلتُ: حسناً، لكن خذني الى بيت عباس.
توجهنا في سيارة بهاء الى بيت صديقنا الدكتور عباس في مدينة الثورة (الصدر لاحقا)، فقد علمت، في وقت سابق، برغبته في الخروج. كنت مصمّماً على الخروج وأعرف الى حدٍّ ما أنَّ الرحلة ليست سهلة، لكن وجود رفيق وصديق معي ربّما خفّف الأمر. لحسن الحظ، وجدنا عباس في المنزل، وبعد التحية والسلام قلت له: عباس أنا ذاهب إلى إيران، هل تأتي معي؟
قال: نعم!
اتّفقت مع عباس أن يأتي بعد يومين للمبيت معي في المنزل ثم ننطلق الى الناصرية. في هذين اليومين حوّلت مدخراتي المالية الى الدولار، أذكر أنَّي حصلت مقابلها على 200 دولار امريكي، كان سعر الدولار في تلك الأيام يمرُّ بفترة انخفاض غير مسبوقة، وإلا لكان مجموع ما معي لا يساوي 50 دولاراً فقط، لكن موافقة العراق على برنامج النفط مقابل الغذاء خفّض سعره مقابل الدينار العراقي.
قضيت يوماً كاملاً في وداع صامت لأهلي، زرت بيت عمي، ودعت أختي التي لاحظت إطلاق لحيتي، وذلك ترتيب جرى مع المهرب كريم الذي طلب منا أن نطلق لحانا ونجلب معنا دشداشة قديمة كجزء من عدّة عبور الحدود. بدوت مهموماً لأختي مع لحيتي الكثّة ومع ذلك قلت: أنا بخير. كان من المستحيل أن اصرّح برغبتي في الهروب خارج العراق، فوصول خبر كهذا الى مسامع رجال الحكومة يعني السجن أو الموت.
صديقي الأقرب وابن خالي قيس الوحيد الذي أخبرته بالأمر، كان لديه أخ أسير "توّاب" في إيران، لكننا نجهل عنوانه أو أي وسيلة اتصال به. قام قيس بإحضار دشداشة قديمة لي، أعطاني 10 آلاف تومان إيراني، لا أدري من أين حصل عليها.
قال: خذها ربّما ستحتاج اليها.
حاولت أن أبدو صلبا أمامه ومقدّراً لخطورة خطوتي المقبلة، أبلغته أنَّ العيش في هذا الذلّ والفقر لا يطاق بعد اليوم. حاول قيس مواساتي وتفهّم صعوبة خطوتي وتمنّى لي التوفيق.
عدت الى البيت عصراً بعد أن اشتريت كميّة من التفاح لم نذقه منذ سنوات طويلة بسبب الحصار. انتظرت عباس ليأتي مساءً بقلق ونفاد صبر، وفي أثناء ذلك، لم استطع النظر بوجه أمي، اكتفيت بالتّمعن فقط بأشكال خطوط الوشم الريفية على يديها، قضيت ساعات مع ابن أخي التوأم نوفل الذي كان بعمر الثماني سنوات، تجنّبت الحديث مع إخوتي حتى لا تفضحني عبرة صوتي الحزين، كان وداعاً مؤلماً وصامتاً بحق، اتذكر ثقله على قلبي الى اليوم.
جاء عباس بحدود الساعة العاشرة مساءً، تحدّثنا بهدوء وصوت خافت. لا أذكر أني تمكنت من النوم في تلك الليلة أم لا، انبلج خيط الصباح الأول، الجميع نائمون باستثناء أمي وأختي مديحة التي أحضرت الفطور، تناولنا القليل منه، وودّعتُهما باقتضاب. دخلت غرفة إخوتي الصغار ودعتهم وهم نيام، ثم عرجت على غرفة أبي، قلت: وداعاً أيها الرجل الكبير، سامحني أبي إن أبكيت عيونك الجميلة، سأكون عند حسن ظنك، فقط ادعو لي بالخير.
في شهر كانون الأول عام 1996، وعند السادسة صباحاً غادرت بيت أهلي بدموع حبيسة وعبرة مخنوقة. توجّهت رفقة عباس صوب الناصرية، أو صوب المجهول ربّما!
دشداشة بثقوب مرقّعة!
كلّ ما حملته معي حقيبة صغيرة بداخلها منشفة، فرشاة، معجون أسنان، وشهادة تخرّجي من كلية الطب ملفوفة وسط دشداشة قديمة بثقوب مرقّعة! أما ملابسي فكانت عبارة عن بنطال، بلوز قديم، وقمصلة عسكرية نيليّة اللون من النوع الذي يرتديه منتسبو صنف القوّة الجوية، فالجو بارد في شهر كانون الأول في العراق ويستدعي ملابس شتائية، وتنخفض درجات الحرارة في إيران، البلاد التي دفعتني المقادير اليها مرغماً. عند كراج النهضة ركبناسيارة لـGMC ذات السرعة العالية، حيث يتسابق سائقو تلك السيارات مع كلّ أنواع السيارات على الطريق الدولي مع عدم اكتراث يذكر بقواعد السير. سائقنا، طوى المسافات الممتدة بسرعة جنونية، حتى أنَّه لم يمنحنا فرصة الوداع الأخير لذلك الطريق الذي سلكته بضع سنوات في رحلة ذهابي وإيابي المتكرّرة بين بغداد والناصرية. لم يعطنا وقتاً لتأمل أي معلم من معالم الطريق، كنت أنظر للخلف أكثر من نظري للأمام، أودّع الأشياء ومناظر المدن المتعبة بلا اكتراث حقيقي. لم يعلق في ذاكرتي من الطريق سوى أحد المقامات الدينية، مقام لرجل يقال إنّه من أحفاد الإمام الكاظم، اسمه (تاج الدين) عند مدخل ناحية الحفريّة، مقام متواضع وسط بستان صغير لم تصله بعد "أبّهة" مقامات الأولياء بعد عهد صدام! لماذا علقت يا مقام الولي في ذاكرتي من دون بقية الأولياء المتناثرين على طول الطريق ومعالمه الأخرى؟
أغوص في بحر أيامي البعيدة، واتذكر أن اسم تاج الدين تناهى الى مسامعي كأوّل ولي أو عبد صالح من خلال عمّتي فطيّم، إذ طالما سمعتها تُقسم به عند الملمات بالطريقة التالية:"والتاي أبو محمد"، على عادة أهل الكوت في قلب الجيم ياءً.
المفارقة، أنّي لم أزره أبداً في حياتي رغم وقوعه في الرقعة الجغرافية التي عشت طفولتي وشبابي فيها، الممتدة بين مدينتي العزيزية والدبوني في محافظة واسط، الى حي الأمين جنوب العاصمة بغداد. كانت لحيتي نابتة سوداء وهو شيء غريب على ضباط الجيش في تلك الأيام، حتى أنّه شيء لم يحصل معي منذ التحاقي في السلك العسكري عام 1992. مع أنّي أحمل هوية ضباط الجيش ولا تشكّل نقاط التفتيش الأمنية الكثيرة بين بغداد والناصرية مشكلة بالنسبة لي في حال سألت إحداها عن بطاقة التعريف كما هي العادة، الا أنَّ إطلاق اللحية بالنسبة لضابط ربّما يمثّل مشكلة ويثير بعض مشاعر القلق، خاصة أنَّ بعض عناصر السيطرات من جماعة الاستخبارات العسكرية يتصرّفون أحيانا بقلّة أدب مع الجميع بمن فيهم الضباط، وربّما اختلقوا أي سبب لابتزاز واستفزاز المسافرين. سارت الأمور على الطريق بشكل اعتيادي، لم نتعرّض لاستفزاز رجال الاستخبارات، وصلنا الى ناحية الغراف التي تقع شمال مدينة الناصرية، وبعد منتصف النهار كنّا عند بيت المهرّب كريم.
يالخيبة الأمل.. لم نجده في البيت! وجدنا أخاه الأكبر مع قريب لهما ممدّدين في غرفة جرداء هي كلّ ما يمثله بيتهم، الى جانب غرفة صغيرة أخرى في أقصى العرصة الترابية، نهض أخو كريم من رقاده ورحّب بِنَا، وقال مستدركا:"كريم في الناصرية وهي تبعد نصف ساعة، سيعود قريبا". في غضون ذلك، لمحت دجاجتين تدخلان الغرفة بين الفينة والأخرى. طلب الأخ الأكبر من قريبهم الذهاب حالاً لإحضار كريم، أعطيناه أجرة تكسي ذهاباً وإياباً وتوقّعنا حضوره خلال أقلّ من ساعتين صحبة كريم، لكنّه لم يأتِ الا قبل العشاء، اتضح أن المسكين استقل باصاً صغيراً لتوفير أجرة التكسي، كان هارباً من الجيش وبلا عمل!
إحدى الدجاجتين اللتين لمحتهما قبل قليل تتجولان بسلام في الدار، وضعها الأخ الأكبر مع الخبز وجبة غداء متأخرة، أو ربّما عشاء مبكّر. هذا ديدن كثير من أهل الناصرية دائما، يطعمون ضيفهم، حتى لو كان ما يطعمونه آخر او كلّ ما يملكون!