شيركو بيكه سالمصادفة وحدها قادتني لقراءة الشاعر الكردي (شيركو بيكه س). كان ذلك وأنا أبحث عن كتاب معين يختص بالنقد والصورة الشعرية. يومها وجدت في معرض كتب لإحدى مكتبات بغداد الكبيرة، ثلاث مجاميع شعرية تعود لهذا الشاعر. هذا الأمر جعلني اعدل عن شراء الكتاب الذي كنت ابحث عنه واشتري المجاميع الثلاث بعد أن قرأت إحدى قصائد تلك المجاميع، حيث أعجبني الشاعر قبل أن تعجبني القصائد فقد لمحت بداخله ومن أول قراءة، الثورة والشموخ عبر مفردات كشفت عما بداخله.
قراءة أولى
الذي يقرأ (شيركو بيكه س) كشاعر عليه أن لا يقرأه على عجالة. لأنه إن فعل فلن يجد غير هواجس وانفعالات وصورا شعرية غير واضحة الرؤية وتكاد تمتلك صفة الإبهام المطلق. وهو ما حصل معي أثناء قراءتي الأولى له، فقد غابت عني بعض الصور ولم اصل إلى أي تأويل معه، في بعضها لم المح أي صورة شعرية كوني لم أركز كثيرا في قراءتي. وبداخلي خاطبت الشاعر_أين هي الصورة وكيف سلختها من الشعر؟ وهي التي ما فارقته منذ أن كتب قبل آلاف السنين. وحين كررت القراءة وجدته قد تقصد ذلك من خلال جعل المفردة مبهمة. لحظتها خمنت أن الشاعر حين كتب تلك القصائد كان يعيش في ظل أجواء سياسية أو اجتماعية غير طبيعية. وقد عرفت أني أصبت حين قرأت ما كتب عنه في مقدمة لـ(دأنا احمد) أثناء التقديم والترجمة لمختارات شعرية بعنوان (أنت سحابة ..فامطرك) حيث ورد على لسان الكاتب (لقد لجا الشاعر إلى استخدام الصورة المبهمة حتى أصبح هذا الاستخدام ملازما لقصائده..)وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن (شيركو) قد وضع الصورة في مكانها الصحيح لكنه لم يستخدم الشائع في قصيدة النثر وإنما غلفها بمفردات تحتاج لتوقف للمتلقي عندها طويلا حتى يتمكن من الالتقاط الصحيح، وتلك مزية تحسب للشاعر لا عليه. ولو أردنا أن نتمعن أكثر، علينا أن نتوقف هنا عند هذا المقطع الشعري الذي ورد ضمن قصيدة (المرأة والمطر) حيث يقول:
المصابيح المشتعلة نهاراً
والنور العكر في جوف البخار
تشبه راسي ورأس الكورد
هاأنذا ابحث ببصري على الرصيف
انه يبحث
يتمشى وفي غضون دقيقة واحدة يصعد من هناك
برفقة حسناء ترتدي السواد
وتحمل حقيبة بنفسجية
هذه إحدى الصور اللافتة للنظر في قصائد (شيركو بيكه س) ولكن عندما تتوغل إلى عمقه أكثر ستجده انفعاليا إلى درجة انك تحسه يومئ لك بالانصراف قبل ان تكمل القراءة .ربما كان يدرك أن المتلقي سوف يحمل معه تلك الانفعالية بحكم أن اللمسة ستصير لسعة. فها هو في مكان آخر يسرد قصة أحد الأكراد في الشام بلغة شعرية تعلن عن انفعالاته وشعوره الواضح بالاضطهاد. في هذا المقطع من قصيدة (تمتمة) يتحدث (شيركو) عن (حمه بجكول) صباغ الأحذية في سوريا حيث يقول:
- أنت التاجر.. ضع قدمك
- أنت الأستاذ ..ضع قدمك
- أنت المحامي.. ضع قدمك
الضابط، الجندي، الجاسوس، الجلاد
الطيبون والأشقياء
جميعكم
ضعوا أقدامكم واحداً تلو الآخر
لم يبق احد، بقي الله فقط
أنا واثق أنه في الآخرة سيبعث هو الآخر
سيبعث في طلب كردي
كي يصبغ حذاءه
حين تقرأ مثل هذه الانفعالات شعرية ماذا تظنك فاعل؟ أنا شخصيا توقفت.. بكيت ..أعدت القراءة مرة أخرى ومن البداية، فالشعور الذي كان يمتلكه (شيركو)هنا لا يمكن وصفه بغير الجنون، جنون الاحتواء الكامل عبر هذيان احتوى كل معاناة الكورد، و(بيكه س) كان شاعرا حمل كوردستان في قلبه طوال وجوده داخل أرضه أو خارجها. وحين تطّلع على جميع أعماله - ومع كوني لم افعل بعد - إلا أني متأكد جداً بأنني لن أجد قصيدة تخلو من مفردة أو اسم لا ينتسب لكوردستان.
ومثلي سيفعل كل من يتتبع شعر (شيركو بيكه س).
في قصيدة أخرى حمل الشاعر انفعالا مختلفا آخر، لكنه ربما كان أقل احتواء كونه ارتبط بــ (الزمكانية)، ففي مقطع من قصيدة (سمكو لن يجلس ثانية على مائدة الموت) نجد أنه أتى بطيف من المواقع الجغرافية الكوردية ومزجها عبر انفعال مرن اسهم في شد المتلقي إلى الاسترسال معه حيث يقول:
اسأل ذلك اللهيب المحترق في اللهيب
أنا رويت مضيق (قوتور)بساقية (خور خورة)
نصبت خيام (جاريه)في بحيرة (ورمى)
ربطت خرج (زوزان)على ظهر (سقز)
عرسي في (سابلاخ)
وأنا امسك بالإيدي في (سنه)
أنا سورة مرآة ذلك الدم
الذي مشط شعر نوروز أمامي
في هذا النص انتحى الشاعر منحى قريبا للتوثيق لكنه لم يهمل الصورة الشعرية عبر توظيفها كفكرة عامة قابلة لان تكون (منطقا خاصا) يمكن أن يفضي إلى أشياء وصور أخرى.
في المقدمة نفسها التي كتبت بقلم (دانا أحمد) لمختارات من شعر (شيركو بيكه س) ورد ما يلي (إن الصور الشعرية الواردة في النص الشعري برمته تجسيد لفكرة عامة أراد الشاعر طرحها من خلال تجربته وبالتالي على المتلقي أن يتأمل في مجمل النص ويعامله بصورة واحدة متجانسة لفهم مفرداته).
وحين لابد من القول هنا فأنا أقول: إن متلقي (شيركو بيكه س) يجب أن يمتلك حساً خاصاً لا يبتعد كثيراً عن الشاعر ذاته و إلا لضاعت منه العديد من المفردات. ومع إقراري بالمنطق الذي ورد كعموميات إلا أني اعتقد بكون (شيركو) حالة شعرية لها خصوصيات صعبة ولن ينفع التعامل مع مجمل نصوصه على أساس صورة واحدة، بل العكس، عليه أن يختص ببعض المقاطع ويحاورها ذاتيا ليخرج بصور واضحة. فالتعبير الشجني لدى هذا الشاعر يحمل أكثر من نشيج. وكل نشيج له مسوغاته. فالوطن له نشيجه، والعشق له نشيجه الذي يتلون بحسب الود وكذا الطبيعة والظروف كل لها نشيجها الخاص و(شيركو) له عذاباته التي يمتلكها.
كتب الناقد والكاتب المسرحي (محي الدين زنكنه) رسالة إلى الشاعر تضمنت انطباعات عن شخصية (شيركو بيكه س) الإنسان جاء فيها (واي ألم يا شيركو واي عذاب ،ذلك الذي يشرخ المرء شرخا، إذ يغادر ..مضطرا، عالمك الشعري هذا، أو يطرد نفسه منه طردا. كما هو حالي).
ماذا يمكن لنا أن نستنتج من خطاب (زنكنه) ولماذا حمل هذه التأوهات؟.
حتما سنعرف أن الحياة التي عاشها (شيركو) كانت مليئة بآلام وغصات ووجع وإلا ما كتب (زنكنه) ما كتبه.
يقول (شيركو):في إحدى قصائده المسماة (ملحمة به رده قاره مان) والتي أهداها إلى العالم المؤرخ الدكتور (كمال مظهر)
ذئب الجزيرة ذو الأنف الطويل
أفهم الكل
حتى بلاد الهند
بأنه سيرعى الغنم
ويرعى الحقوق
ومع حلول الظلام
كان الذئب ذو الشفة العريضة
وحتى الهند
يجعل من ذيله عصا
ويسرق بالعصا
الغنم والحقوق
وثروات العالم أجمع
لنفسه
قراءة سريعة لهذه القصيدة تكفي بان نستشف منها السخرية اللاذعة التي ينتهجها الشاعر في وصم خصومه بصفاتهم التي يحملون. وهنا حين يورد الكيان الذي تقصده بخيانة الأمانة فانه كان دقيقا برغم الرمزية الواضحة التي أورد من خلالها قصيدته. وهذه الميزة تعطينا فكرة أن (شيركو) كان ثائرا ليس لوطنه فحسب.
فأغلب الشعر الذي كتب بنهج السخرية كان يكتبه الشعراء الحاملون للثورة بداخلهم وتلك الثورة لم تأت من فراغ وإنما جاءت بها روحه التي تحمل هموم وأوجاع الوطن والشعب في العراق والارض العربية جميعا، وهي إحدى أجمل الصور التي يحق لـ (بيكه س) أن يفتخر بها إضافة إلى منجزه الشعري الآخر والذي تعدى المعقول.