محاولة أخرى
فشلت محاولتنا الأولى في عبور المحيط إلى أستراليا بانقلاب السفينة، فتركنا المجموعة خوفا من الشرطة وبتنا ليلتنا عند العائلة الإندونيسية الفقيرة كما مرّ، أذكر أنَّ صاحب الكوخ أعطاني فردتي نعال مختلفتين لأحمي باطن قدمي المتشقّقة بفعل الصخور الحادّة.
عدنا أنا وبهاء باتجاه مكان انقلاب السفينة، شاهدنا من مسافة قريبة بعض العراقيين يتحلّقون حول شرطيين إندونيسيين، آخرون ينشرون ملابسهم المبلّلة على سياج البيوت الخشبية الساحلية وكأنَّهم قاموا باحتلالها!
رأينا ماجد السمين وهو من (بدون الكويت) يركب دراجة هوائية منتصف الطريق ويرتدي دشداشته الفضفاضة، يبدو أنَّه أخذ الدراجة من فتى إندونيسي.
أشعرتنا المشاهدات بأمان مؤقت، أحسسنا لوهلة أنَّ الأمور ليست بالخطورة والتعقيد اللذين كنّا نتوقعهما.
اكتشفنا أنَّ عملية التهريب تتم تحت إشراف وعيون الشرطة، وليس لخوفنا وقلقنا ما يبررهما، أُّزيح بالنسبة لي على الأقل همَّ الخوف المزمن من الشرطة وعيون المراقبة، حيث قضيت وقتا طويلا متخفّيا وخائفا بسبب جوازي المزيّف. كانت الرشوة والفساد متفشيين في الجهاز الحكومي الإندونيسي، سوهارتو ومثل أي دكتاتور غبي، لم يهتم ببناء دولة، قدر عنايته ببناء أمجاد وأوهام شخصية، بحيث غلّف دولة خاوية بستار براق من الزَّيف والأكاذيب.
رشوة الشرطة والاتفاق مع كبار رجالاتها سهل جدّاً، ظهر أنَّ المهرّب أحمد الإندونيسي يقوم بالاتفاق معهم مسبّقاً، حتى أنَّ أفراد الشرطة الذين زارونا أخذوا بعض النقود وانصرفوا.
الموضوع الآخر الذي أشعرني بالأمان من الجانب الإندونيسي سوء علاقتهم مع أستراليا بسبب دعم الأخيرة وتبنيها العلني لاستقلال تيمور الشرقية عن إندونيسيا في تلك الأيام، فتقوم إندونيسيا بتسهيل وصول آلاف اللاجئين الى أستراليا عقوبة لها!
في اليوم التالي، وأثناء ساعات الانتظار وما يسفر عنه الحال، حدث جدل ولغط كبيرين بين مجاميع المهاجرين، كلّ مجموعة تتحدّث جانبا بصوت عال عن الرحلة ونهايتها الفاشلة.
ذو الشوارب والحواجب الكثّة مثلاً، أخذ يلوم أبا علي الكويتي ويحمِّله مسؤولية الفشل الذريع، ويعتقد بوصولنا سالمين لو كان المشرف على رحلتنا، فهو شخص منظَّم وفاهم كما يقول!
الرجل الأصلع يلوم الجميع، لأنَّهم جبنوا وخافوا من البحر، ويعرب عن استعداده للوصول الى أستراليا سباحةً! على مقربة منّا، لمحت رجلا أسمر بديناً يلبس سروالاً واسعاً، كان ينشر ثيابه على السياج ويتحدّث بهدوء وتسليم بقضاء الله وقدره، يبالغ في حثّ الناس على التحلي بالصبر.
يميل المرء غريزياً الى التمسك بالإله والغيب في لحظات الخطر واليأس، أكثر من تمسكه بهما أيام الرخاء، حتى أنَّنا وجدنا عزاءً وبلسماً في حديث الشيخ أبي رضا وهو اسم صاحبنا الشيخ البدين الأسمر.
واصل الشيخ استشهاده بحوادث قاسية مماثلة لحالنا ويدعمها بآيات يعرفها من دراسته الحوزوية في إيران، مشدّداً على أنَّ لطف الله دفع ما كان أعظم.
وجدنا شواهد حديثه مطابقة لحالنا، كان بسيطاً ومرحاً وصاحب نكتة رغم مرارة الظروف، يحدثني بحنوّ واضح باعتباري شاباً، رغم أنَّه يكبرني بسنة أو أكثر بقليل.
يعتقد الشيخ أبو رضا أنَّ أسباباً محدّدة وقفت وراء نجاتنا من الموت المحتّم، منها وجود أطفال بريئين بيننا، أو أناس أخيار، ومن العدل الا يأخذ الله الفرد بذنب الجماعة أو العكس كما يقول.
سألته إن كانت سفرتنا تكتب لله من المنظور الديني؟ فقال نعم، مضيفا بفكاهة معهودة، هل تعتقد أنَّني أبحث عن الشقراوات بسروالي هذا!
بعد ذلك، اتّصلنا بالمهرّب أحمد الإندونيسي، فوعد بإرسال باصات لإعادتنا الى الفندق نفسه الذي انطلقنا منه، وقبل نهاية اليوم رجعنا الى منزلنا الأوّل!
عدنا الى الفندق نفسه الذي غادرناه، فندق بسيط بثلاثة طوابق في حي فقير مطلّ على شارع عام مزدحم جدّاً بالباعة المتجولين وأصحاب العربات التي تبيع الأكل الرخيص، بعض غرفه لنفرين بسرير واحد، وبعضها لأربعة بسريرين، إضافة الى وجود تلفاز وثلاجة صغيرة مع حمام بسيط، ويتكفّل المهرّب بدفع الأجور حسب الاتفاق المبرم.
بدأت جولة أخرى من التنظيم والترتيب لإعادة المحاولة، بحركة دؤوبة، أخذ أبو علي الكويتي يمرّ على الجميع لطمأنتهم بشأن نوايا المهرّب أحمد الإندونيسي، مؤكداً عدم تخلّيه عن الجميع ويتكفّل بوصولهم الى أستراليا بشكل قاطع.
اطمأن البعض، اعترض آخرون على سوء التنظيم والدراية، وبعضهم حاول التّقرّب من أحمد الإندونيسي وأخذ دور المنظّم طمعاً ببعض المال، أو على الأقل السفر مجانا الى أستراليا.
ذات مساء، جاء الإندونيسي إلى الفندق محاطاً بجمع كبير من الأشخاص الذين يعاملونه كقائد أو فاتح عظيم! مضت أسابيع عدّة، ولم نسمع سوى إشاعات مختلفة وقصص عن وصول البعض الى أستراليا وغرق أو اختفاء آخرين، لم يكن لدينا أي مصدر موثوق للمعلومات، كانت مجرد حكايات تتأرجح بين يأس وأمل يتداولها الجميع خلف جدران غرفهم الكئيبة بعد أن انقطعوا عن العالم وركنوا لعالمهم الخاص.
أنا وبهاء نعيش في الغرفة نفسها واحتفظنا بعلاقات نادرة مع الآخرين، نقضي الكثير من الوقت بمشاهدة قناة cnn بنسختها الآسيوية.
أذكر أنّني التقيت بكريم الذي عرفته في مطار الأردن، كان مؤدّباً مرحاً، وقد حكى لي كيف تسرّح من الجيش بعد معركة "ام المعارك"، ثم غادر الى الأردن ليعمل حدّاداً سنوات طويلة ويرسل كلّ ما يحصل عليه لزوجته وأطفاله، وفي نهاية عام 1998، عاد ليجد أنَّ اطفاله على حافة المجاعة والسوء، فالمال الذي كان يرسله، يظلّ الطريق اليهم ويقع في جيب رجل آخر!
بعض رفاق الرحلة الفاشلة من الأفغان، غادروا الفندق وتركوا المجموعة كلياً وذهبوا إلى المهرّب حسن أيوب الباكستاني، وكان لا يتعامل الا مع الأفغان.
في مقابل ذلك، التحقت بنا مجموعة جديدة قادمة من إيران وبدأ العدد يكبر استعداداً للرحلة المقبلة.
بلغ العدد اكثر من 250 شخصاً يتوزعون بين كلّ الفئات والأعمار، متعلمين وجهلة، فقراء وأثرياء، متدينين وغيرهم، عاطلين وحرفيين، عراقيين وأفغان وبعض الإيرانيين.
نفدت معظم مدخراتنا أو كادت، صرنا نشتري الطعام الرخيص فقط، لكن ذلك لم يمنع بعض الشباب من الاتيان بفتيات إندونيسيات دفعهن الفقر المدقع لممارسة الجنس مقابل المال، الغريب أنَّ أغلبهن لم يحترفن مهنة الدعارة، إنما كنّ موظفات أو معلمات أو بائعات في متاجر خاصّة، يفعلن ذلك لتدبير أمور معيشتهن الصعبة.
بعض الشباب يقضي معهن أياما دون أن يدفع مالا مقابل ذلك، فتضيق الفتاة ذرعاً وتضطر للصراخ بوجهه قائلة: أريد نقودي وليس فحولتك!
جاء معظم الموجودين من إيران وقليل منهم من الأردن، وكان الحديث عن التّدين وشروط الالتزام به رائجاً، خاصّة بين أوساط القادمين من إيران، لكنّهم كانوا الأكثر تواجداً في النوادي الليلة وجلب الفتيات إلى غرف النوم!
تعتقد الفتيات الإندونيسيات أنَّ كلَّ عربي هو سعودي بالضرورة، وهناك تعاون وثيق وروابط كثيرة بين الجانبين بسبب رابطة الدين والعمالة الإندونيسية في السعودية، حتى أنَّهم يتحدّثون علناً عن السياحة الجنسية السعودية. كان بعض المحتالين من العراقيين يدّعون أصولاً سعودية وسرعان ما ينكشف كذبهم، فليس لديهم ما ينفقونه حتى تلمس الإندونيسيات كرمهم العربي!
دخلتُ في إحدى المرات مطعماً صحبة مجموعة من الأشخاص أحدهم معمّم، فطلب مني بإلحاح سؤال صاحبة المطعم المحجّبة؛ إن كان اللحم الذي تقدّمه حلالاً؟ فأقسمت المرأة بإسلامها أنَّ لحمها حلال، فطلب الشيخ السمك مع الرز من باب الاحتياط! وبعد انتهاء وجبة العشاء ذهبنا الى السوق، سألني هذه المرَّة عن اسم الواقي الذكري وطريقة شرائه!
مرَّ شهر تقريبا من القلق والتّرقُّب، سمعنا خلاله مئات الحكايات عن فرص الوصول أو عدمها الى أستراليا، لكنّنا لم نفكّر في التراجع والعودة الى اليمن خيارنا الوحيد والمتاح، كلّ ما كان معي 300 دولار فقط والعودة الى اليمن، تعني البدء من الصفر، وهي مهمة عسيرة وغير عملية، ففضّلنا البقاء والمحاولة مرَّة أخرى، أملاً في مستقبل أفضل وحياة مستقرة، إن تمكّنا من عبور البحر والوصول بسلام.
حدّد أبو علي الكويتي موعد الانطلاق التالي في الأسبوع الثاني من تشرين الأول 1999، يفترض بنا هذه المرَّة أن نصعد سفينة كبيرة مجهّزة بكامل عدّتها، تأخذنا من سواحل جاكارتا الى جزيرة كريسمس الأسترالية.
هيا الى السفينة ...عدنا وعادت خيلنا.
رحلة ماجد
اتّبعنا خطوات وطرق المحاولة الأولى نفسها، انطلقنا منتصف النهار من الفندق في باصات زرقاء تحمل 40 شخصاً تقريبا باتجاه الساحل. بعد أقلّ من نصف ساعة على الانطلاق، طلب شاب لا تبدو عليه علامات الذكاء كنيته (أبو عكرب) من سائق الباص ان يضع شريطا للأغاني في مسجّل السيارة، فتعالى صوت الموسيقى وأغاني المطرب المصري عمرو ذياب، إذ كان سماعه رائجاً جدّاً بين الشباب في تلك الأيام.
يبدو أنَّ أحوال المهاجرين النفسيّة في تلك اللحظات لم تتطابق مع مزاج أبي عكرب الموسيقي، فجوبه باعتراض شديد من أغلب الحضور، حتى أنَّ طبيبا ضمن المجموعة انتفض بشدّة ووجّه له كلاماً قاسياً متهماً إياه بقلّة الأدب! مستنكراً عليه سماع الموسيقى بدلا من القرآن في مثل تلك الظروف العصيبة!
انتهت حماقة أبي عكرب بوضع شريط قرآن بدل أغاني عمر ذياب وتحوّل الموضوع الى ما يشبه السير في جنازة، يسعى خلالها المشيعون الى قبرها سريعاً وبلا ضوضاء! وصلنا الى الساحل وقد خيّم الظلام، فأخذ بعض الطوال وأصحاب العضلات زمام المبادرة والقيادة في التوجيه وإصدار الأوامر، أخبروا كلّ شخص كيف ومتى ينزل الى القارب الصغير، ملوحين بعبارات الويل والثبور لمن لا يلتزم بتعليماتهم.
نال الأفغان حصّة الأسد من قلّة أدب وصراخ هؤلاء، لكنّهم لم يردوا بكلمة، ربّما لأنّهم لم يفهموا ما قيل بحقهم.
بدأنا الصعود في القوارب الصغيرة بخطوات قلقة مخافة السقوط في الماء، للوصول الى السفينة الوحيدة الراسية على مسافة قريبة، وفي أقلّ من عشر دقائق تفرّغ الزوارق الصغيرة حمولتها (4-5 أشخاص) في السفينة الحوضيّة ثم تعود لجلب الآخرين.
كان لون السفينة أزرق سمائيا، وهي عبارة عن حوض كبير محاط بسطح لا يتجاوز المتر الواحد من جوانبه وعرض ثلاثة أمتار في المقدمة وثمة درج خشبي لنزول الأشخاص الى حوض السفينة والصعود منها، محركها في مؤخرة الحوض، ينتصب فوق ساقية صغيرة من الماء المتساقط من السفينة، فيمرُّ عبر مضخة صغيرة إلى خارجها.
اتّخذ عشرون أفغانيا من طائفة (الهزارة)، مقدمة السفينة المغطّاة بقطع خشبية مكاناً لجلوسهم.
للهزارة وجوه مميّزة قريبة من ملامح سكّان منغوليا وقد تعرّضوا لاضطهاد فظيع من حركة طالبان الأفغانية وأغلب عناصرها من البشتون والاوزبك السنّة، يميل مزاجهم الى الهدوء. اللافت، أنَّهم كانوا يستمعون لشخص واحد فقط، اسمه سيد كريم يجيد التّحدُّث باللغة العربية وقليل من الانكليزية، وهم بذلك يختلفون تماما عن العراقيين الذين لا يعترفون بزعامة نبي!
في السفينة، تفوح رائحة الجلود والحيوانات والأخشاب، بدا على حوضها التّهالُّك وأثر السنين الطويلة، عرفنا أنَّها استخدمت لنقل الجلود مدة أربعين عاماً.
جلست العوائل خلف قمرة القيادة على سطح السفينة، في منطقة مغطّاة قريبة من دورة المياه الوحيدة.
أخذ بعض رجال السفينة، وأغلبهم من النجف، يدورون حولنا ويصدرون أوامرهم الحازمة غير القابلة للنقاش، حتى بدوا لنا مثل قراصنة غلاظ، أحدهم بعين واحدة، وطبع آخر وشما مخيفا على ذراعه.
أوامرهم وكلامهم لم يتجاوزا حدود التوجيهات العامة التي نعرفها ونحن ملتزمون بها، لكن طريقتهم في التعامل بدت فظّة وقاسية ولا ينم سلوكهم عن إحساس بالمسؤولية قدر ميله الى التّسلُّط.
عند منتصف الليل بدأت الرحلة، باطمئنان شبه نسبي، نابع من حجم السفينة الكبير، مقارنة بحجمها في الرحلة الأولى، على أنَّ جهلنا بأهوال المحيط ظلّ هاجسا مخيفا، فلم يسبق لأي منّا عبور البحر.
مرّت أقلّ من ساعتين في هدوء، ثم بدأت السفينة تخرج صريراً يشبه صوت تكسُّر الخشب، فتطلعت العيون لبعضها، متوقعين انهيار السفينة في أي لحظة. كنت ادخّن سيكارة واسمع صرير خشب السفينة كأنها موسيقى في فلم رعب.
ارتفعت السفينة كمن يتعثّر بحجر وقذفتنا الى جانب واحد، ليتكدّس بَعضُنَا فوق بعض، ثوانٍ أخرى وقبل أن نسترد وضعنا رُمينا الى الجانب الآخر.
بدأ الجميع بالتقيُّؤ؛ تقيّأت مرتين فقط، استمر غيري بلا انقطاع حتى نزف دماً.
حاولنا الصمود دقائق في مواضعنا، تشبّثنا ببعضنا، تلونا آيات النجاة، توسّلنا بالأولياء ليحضروا وطلب منا أحد المتديّنين قراءة بعض الآيات وإهداء ثوابها الى أم البنين! في الأثناء صرخ أحدهم، أنَّ محرك السفينة تعطّل وغدت مجرد خشبة طافية فوق محيط متلاطم وقشّة في مهبِّ الريح، ولا نمتلك القدرة على توجيهها وأملنا البقاء أحياء حتى وصول الفرج.
تعالت أصوات الصراخ والعويل، جاؤوا بأوعية بلاستيكية وطلبوا من الجميع إفراغ الماء من تحت محرّك السفينة بسبب عطل المضخّة.
عملنا سلسلة بشرية تحمل الأوعية وتسلّمها تباعا الى شخص يجلس على الدرج، فيسلّمها بدوره لشخص أعلى السطح لرمي الماء في المحيط، والأخير ربط قدمه بحبل مشدود الى وتد في سطح السفينة لتجنّب السقوط في ظلام المحيط.
مراهق أفغاني وسيم صرخ بنا من على الدرج وهو يتناول أوعية الماء بيدين مرتعشتين: قولوا يا الله... قولوا يا علي.. لن نموت، لن نموت.
استمر الرُّعب لساعات، لم يتوقف البعض عن حمل دلاء الماء لحظة واحدة، فيما لم يرفع بعضهم قطرة ماء واحدة، نتيجة إصابتهم بالدُّوار الشديد او التقيُّؤ المستمر او التخاذل والاتكال على جهود الآخرين.
أصاب الإعياء الجميع، أخذ كلّ 3 أفغان يتناوبون فيما بينهم على تفريغ المياه، أما القرصان النجفي اللئيم صاحب العين الواحدة فلم يتزحزح من مكانه، فتناول أحد الأفغان قطعة حبل غليظة وهوى بها على صدره ورأسه مطالبا إياه بالنهوض والمشاركة.
أما جميل، فتى الناصرية الأسمر، فيستنهض المتقاعسين بعد الانتهاء من دوره في حمل المياه، ويقول لهم: شاركونا، نحمل المصير نفسه، ستموتون إن متنا وتنجون إن نجونا. ويضطر أحياناً الى تقبيل أيدي بعضهم متوسِّلا دون جدوى!
أبو مشعل الـ"البدون"، صاحب الشوارب الغليظة واللهجة البدوية، بدأ يمشي بثبات وسط السفينة أو (الكاروك) كما اسماها، يصيح بأسماء أطفاله ويودّعهم واحداً واحداً، وبقدر ما أبكانا صوته، زوّدنا بشحنات من العاطفة دفعتنا للتشبّث بحبل النجاة الأخير، إكراما لمن نحبُّهم ويحبُّونا.
أخذت فترات قصيرة من الراحة، أدخن سيكارة وأودّع في سري أبي وإخوتي وأطلب منهم غفران حماقتي التي دفعني لها طلب الحياة الكريمة لي ولهم.
حاولت الا اتذكّر وجه أمي، فذلك مؤلم جدّاً في تلك المحنة العصيبة، شعرت بأسى عميق لهذا الحظّ العاثر، فكرت أن إخوتي ربّما لن يجدوا لي مكاناً أو قبراً، إن رغبوا في العويل أو البكاء عليّ!