في خضم الأحداث التاريخية الكثيفة التي يعج بها تاريخ العراق الحديث المعاصر نشعر اننا بحاجة ماسة للتحليل التاريخي الجاد والمنطقي والذي يعتمد الموضوعية والحيادية، مثلما نشعر اننا بحاجة لأعادة كتابة هذه الأحداث التاريخية بمنهجية عادلة وبأنصاف بالنظر للتشوية والتزوير والتزييف الذي تعرض له تاريخ العراق، ولذلك فان مهمة اعادة قراءة التاريخ العراقي وفق تلك الموضوعية والانصاف مطلوبة من المؤرخ والكاتب.
والأمر لايتطلب فقط الجرأة وتدقيق الروايات والتحليل المعتمد على المنطق العلمي ، وانما ضرورة وجود المؤرخ التاريخي الذي يعتمد على التحليل وأعتماد الضمير والأستناد على المنطق والحقيقة في التحليل المنصف والدقيق، فقد تم تشويه العديد من صور الأحداث وساهمت السلطات التي تعاقبت في تزوير حقائق كثيرة يراد لها أن تنطمس وتبقى مطمورة أو تشويه الحقائق التاريخية على الأقل في حال تعارض تلك الحقائق مع حقيقة السلطة ذاتها.
غير أن اسماً عراقياً لافتاً للنظر بقي متمسكاً ليس فقط بمنهجيته الحيادية وأعتمادة على الحقيقة المجردة ، بل بقي متمسكاً بمبادئه وخلقه وألتزامه وأصراره على التمسك بحيادية التحليل وقول الحقيقة في مكانها الزمني والموضعي المناسب.
أسماً عراقياً أتسمت كتاباته وتحليلاته بالأنصاف وعدم الأنسياق وراء رغبة السلطان ولافتاوى السلطة، ولم تدفعه الانفعالات والمرويات الشفاهية، ولم تهتز له شعره في أصراره على أن يقول الحقيقة ويعلمها ويصر عليها كمنهج يتم العمل به مقابل منهج التزوير والتحليل السلطوي للحدث التاريخي.
العراقي الدكتور كمال مظهر أحمد من القلائل الذين يجدر الأشارة اليهم والتمعن بمنهجيتهم وأسلوبهم في الكتابة التاريخية، وأصرارهم على تأسيس مدرسة الحقيقة في التحليل التاريخي بتجرد ، ويقينا ان تلك المدرسة التي انجبت طلابا اوفياء لمنهج استاذهم كمال مظهر انتجت قراءات وتحليلات غاية في العمق والدقة والصدق.
وكمال احمد مظهر صاحب التجربة الأكاديمية الطويلة أستطاع أن يؤسس مدرسة تاريخية تضم كل الأصوات الداعية لأعتماد الحقيقة الموضوعية في الكتابة التاريخية، واعتماد المنطق والضمير في التحليل التاريخي، وأصرار وصمود هذه المدرسة في مقابل مدارس تعتمد المناهج المشوهة والمركبة في ارباك الفهم وتعمد على خلط الأستنتاج كقاعدة لتشوية صورة الحدث التاريخي العراقي ، وأزاء ذلك بقيت المناهج والمدرسة التي أعتمدها الدكتور كمال أحمد مظهر حاضرة ومطلوبة ومعتمدة حتى أثبتت بقائها الأصلح والتي نشعر اننا بحاجة ماسة اليها بعد أن مضى زمن سلطة الحزب الشوفيني الواحد وتسلط الدكتاتورية في العراق . يقول الدكتور كمال مظهر أذا لم أكن كردياً أصيلاً فلن أكون عراقياً أصيلاً.
والمتمعن في مقولة الدكتور كمال بما عرف عنه من واقعية وجرأة في سبيل أعادة كتابة الأحداث التاريخية وفق منهج الحقيقة المجردة، يستطيع أن يتلمس ليس فقط صدقيته وأنما تمسكه الوطني بتفاصيل الحياة العراقية من خلال أعتزازه القومي للكرد والذي يشكل رافداً من روافد النسيج الوطني العراقي.
والدكتور كمال صاحب التجربة الكبيرة في الدراسات التاريخية، وصاحب التجربة الفكرية والسياسية التي خاضها ضمن تفاصيل العمل السياسي العراقي حاملاً فكره النير وأعتقاداته الأنسانية الى جانب ألتزاماته المنهجية في الكتابة التاريخية ، والدكتور كمال احمد مظهر أشرف على مدى ثلاثة عقود ونيف على العشرات من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه لدراسة صفحات مهمة من تاريخ العراق الحديث والمعاصر. كما ليس فقط الأستنتاج التاريخي المنطقي ما يميز أبحاث ودراسات وتوجيهات الدكتور كمال مظهر
أنما ابتعاده عن العاطفة السياسية التي طغت على الشارع العراقي يوما ما، وجنوحه لأعتماد الموضوعية في التحليل والسرد التاريخي بأعتماده على الحقائق التاريخية.
ولذلك كان من دعاة تعديل الأنحرافات غير الموضوعية التي تكتنف دراساتنا التاريخية، ومدى ضرورة أعادة النظر في عدد غير قليل من الأحكام التاريخية الشائعة غير المنصفة.
وكما ان احمد مظهر الذي يتسم بحياديته التاريخية ظاهرة من ظواهر النتاج المعرفي والثقافي العراقي الأصيل، ويمكن أن نتلمس هذا القدر من حياديته في كتاباته التي تختلف عن قناعاته الفكرية وكونها تنتمي الى خنادق نقيضه للخندق الذي ينتمي اليه الدكتور كمال، ولهذا فانه يعد الخروج على مبدأ ((من ليس معي فهو ضدي)) الذي يعتمده البعض في التخندق والتحليل التاريخي ورؤية الحدث من وجهة نظر واحدة واجباً تقويمياً في الحيادية والأنصاف والأبتعاد عن التشويه والتلفيق. لعلي من بين العديد من ابناء العراق ممن حفظوا أسم الدكتور كمال أحمد مظهر منذ بداية أشتغالي وولعي بالتاريخ، واثناء دراستي الأكاديمية للتاريخ، تابعت عن بعد الطروحات الزاخرة بالمنطق وطرحه تحليلاته التاريخية الواضحة والمنصفة للعديد من الأحداث التاريخية المبهمة والمليئة بالغموض التي يزخر بها تاريخ العراق الحديث المعاصر.
وأزاء مايمكن أن تحققه مسيرة المؤرخ العراقي الدكتور كمال أحمد مظهر ، فثمة نشاط يسلك نفس النهج ويعتمد نفس الموضوعية في كتابة التاريخ والتحليل التاريخي يتجسد في كتابات المؤرخ العراقي الدكتور سيار كوكب الجميل، ينم عن وجود أتجاه في فهم النظريات والاتجاهات الحديثة لعلم التاريخ تتم الاستنارة بها والاستناد عليها في التحليلات التاريخية وكتابة البحوث فتطور علم التاريخ بشكل علمي يشكل جزء من التطور الثقافي العام . ومنهجية التاريخ عند الدكتور كمال مظهر احمد ترتكز على أساس الحقيقة التاريخية دون أن تسيطر أية نوازع في شخصية الباحث القومية منها أو الفكرية أو الأجتماعية على شكل الحقيقة أو مضمونها، وهذه المنهجية وأن بدت في الزمن البائد بعيدة عن الواقع وتعتمد من قبل القلة من المؤرخين الذين أصروا على أن تكون منهجيتهم خارج أطار مناهج السلطة الشوفينية التي أصرت على تزوير حقائق التاريخ، وتوظيف الباحثين لغرض التلفيق والتزويق والبتر واللصق، ومع كل أمكانيات السلطات البائدة بقيت بعض الأصوات الناصعة والعراقية الأصيلة نظيفة وصامدة في أعتماد الحقيقة التاريخية غير عابئة بما حشدته السلطات من أطنان الوثائق المزورة والحقائق الملفقة، فالحقيقة النظيفة تبقى دائما بحاجة لمن يصقلها ويعيد بريقها ورونقها ليظهرها الى العيان . وهذا هو منهج أعتماد الحقيقة التي يبدو أن الدكتور كمال أحمد مظهر والدكتور سيار كوكب الجميل من دعاتها وشخوصها الأساسية. ولطالما تمعنت في كلمات المؤرخ الكبير الدكتور كمال مظهر فوجدتها ممتلئة بالحكمة والعميق من المعاني وتلامس شغاف القلب حين تدعو لأعتماد الحقيقة في التصدي لدراسة التاريخ، ولطالما دققت العديد من القضايا التي طرحها الدكتور كمال مظهر أحمد فوجدت أنه يعتمد التوثيق والتوضيح والتحليل المنطقي للحدث التاريخي، بالأضافة الى محاولته أستنباط النتائج بشكل أيجابي.
وحين بدأت في كتابة كتابي ( لمحات عن سعيد قزاز ) منذ بداية التسعينات حين كنت قاضياً في مدينة الموصل ، وحين بدأت أضع الخطوط الأولى لمنهجي في الكتابة عن قضية شائكة ومثار خلاف في الرأي بين العراقيين بأتجاه تقويم تاريخي نازعاً من قلبي كل الحساسيات التي عرفتها عن سعيد قزاز من خلال تعبئتي فكرياً وسياسياً بالضد منه، مع مااتوقعه بما سيلحقني من بعض المتزمتين فكرياً ممن لايقبلون الحقيقة كما هي أنما تعودوا أن يتقبلوا الحقائق كما يرسمونها، مع مالحق شخصية وتاريخ سعيد قزاز من تشويه وأضافات وتعبئة الكثير منها مايخالف الحقيقة، مما يوجب على الباحث المنصف أن يقوم بتشذيب مالحقها من زعم وأدعاء وزيف وأبقاء الحقائق وتحليلها ومناقشتها بالروح الحيادية التي يعتمدها الدكتور كمال احمد مظهر.
كنت أتمنى أن يكون الدكتور كمال أحمد مظهر هو من يشرف على بحثي هذا ومن يبصرني بطريقة البحث والتوصل الى أستكمال الموضوع شكله المقارب للمنطق . ولكن الظروف السياسية وظروف عملي القضائي أستحالت على ان أضع جهدي تحت تصرف الدكتور كمال مظهر، فتوكلت على الله خلال تلك السنوات أبحث عن شخصية ممتلئة بالأسرار
والغموض ودخلت الأحداث المهمة في تاريخ العراق، شخصية نافذة مثل شخصية سعيد قزاز والتي لاقيت مالاقيت جراء أستمراري ومتابعتي البحث المذكور دون أن يكون لي أي قصد سوى التوصل الى الحقيقة المجردة والله شاهد على القصد.
اعود الى الدكتور كمال مظهر وبين يدي الدراسة الأولى من كتابه الأخير كركوك وتوابعها حكم التاريخ والضمير ، وهو عبارة عن دراسة وثائقية ومنهجية في القضية الكردية في العراق ، اختزل الدكتور كمال كل الوثائق والحقائق في مقولة صغيرة ومعبرة وعميقة الدلالة والمعنى في أهداء الكتاب الى كل عربي يرفض ان يكون ظالماً بقدر مايرفض أن يكون مظلوما.
وبقاء صوت مدرسة الدكتور كمال احمد مظهر يدل بما لايقبل الشك على أنتصار الحقيقة دوماً بأعتبارها من الكلمات المقدسة التي يطالها التشوية والتخريب لكنها تصر ان تبقى ناصعة وأن كان يغطيها الرماد، أذ لابد من أن تجد من يزيح عنها الركام ويظهر بريقها، وهو ما وجدناه لدى الدكتور كمال احمد مظهر.