الإهداء
الى ذكرى والدي
الى الهاربين من الحروب والموت
أصدقائي اللاجئين والمهاجرين
آمر الكلية العسكرية وكبار الضباط يُدركون صعوبة الظروف وقسوة الحصار، لكنّهم يدركون أيضاً، أن الأهم بالنسبة لهم صياغة انطباع جيد لمراجعهم العسكرية.
كان وزير الدفاع آنذاك، علي حسن المجيد(علي كيمياوي) ابن عم صدام حسين.
الانطباع الأهم الذي كانوا يسعون الى صياغته، هو أن أوضاع الكلية ممتازة ولا وجود لحالات تسيّب او قلّة انضباط في المؤسسة العسكرية التي تعني لهما الكثير.
تغيّبتُ أسبوعين كاملين ولم يتخذ أي إجراء ضدي، يتذمّر صغار الضباط دائماً من الوضع (الحلل) كما يسمونه وقلّة الضبط.
أصاب الجيش بعد حرب عاصفة الصحراء كثير من الوهن، تفشّت فيه الرشوة والمحسوبية بشكل مخيف بعد أن كان مؤسسة منضبطة الى حدٍّ ما.
ذات مرّة، تذمّر الملازم أول بسمان، وهو من الموصل بصوت مسموع وواضح، كان فحوى تذمّره، أن الكلية يأمرها سائس خَيل ومتملق كبير لا يعنيه الجيش والعسكرية، وفي ذلك كانت إشارة ماكرة الى ظهور اللواء الركن آمر الكلية العسكرية في التلفزيون وهو يقود حصان يمتطيه الرئيس صدام حسين في استعراض بإحدى المناسبات الكثيرة للنظام!
يقال إن الحصان الذي امتطاه السيد الرئيس والمقاد من جانب اللواء الركن جنح عن مسيره أكثر من مرّة!، يبدو الا أحد من الزملاء التقط الإشارة حينها!
عوامل تصدّع المؤسسة العسكرية واضمحلال تقاليدها بدت واضحة في تلك الأيام، لأسباب مختلفة أبرزها الحصار، لذلك لاحظنا عدم انضمام بعض زملائنا من أبناء الضباط والمسؤولين الكبار الى الكلية العسكرية.
لم يلتحق نمير وأبوه لواء طبيب بالكلية أصلاً، سمعنا حينها أنّه سافر الى لندن، فيما نعاني الأمرّين في ساحة العرضات!
أما عادل، نجل عضو القيادة القطرية لحزب البعث خضر الدوري، فكان يأتي مرّة واحدة بالشهر لتناول الشاي والكعك مع آمر الكلية العسكرية ويسجّل حضوراً منتظماً.
صرنا نتندّر على حالنا ونحن نتناول صمون الجيش الخشن والقاسي في ظل المراقبة الصارمة لعريف الفصيل!
أنهينا الشهور التسعة باستعراض التّخرّج، بدلات نظيفة وهياكل بنادق فارغة من كلِّ عدّة العمل كبندقية، من (ترباس) و(بيت الترباس) وإبرة إطلاق، فضلاً عن الطلقات النارية.
وفوق ذلك، مرَّ أكثر من ضابط أمن علينا لتفادي احتمال أن يكون أي منا قد حصل على بندقية حقيقية يمكن أن تطلق إطلاقة واحدة.
بدأنا بصفوف منتظمة، قامات منتصبة، رؤوس مرفوعة، نفوس ذليلة وأمعاء فارغة.
نمرُّ أمام منصّة الاستعراض وكبار الضباط يتوسطهم علي حسن المجيد وزير الدفاع، وهو مزهوّ بتخريج كوكبة من الضباط الأشاوس الجياع الذين سيلقنون العدو الدروس، وأي دروس؟!
دورة الصنف
انقضت إيام الكلية العسكرية بسلام وانتهت بمرسوم جمهوري يقضي بتخرجنا ضباطاً برتبة ملازم ثان بنجمة واحدة على كلِّ كتف، مع قدم سنتين لحصولنا على شهادة البكالوريوس في الطب، لكننا وضعنا على أكتافنا نجمتين منذ اليوم الأول!
تقتضي السياقات العسكرية أن ندخل (دورة صنف) مدتها ثلاثة أشهر، بعد تخرجنا مباشرة من الكلية العسكرية، لنكون مؤهلين للعمل أطباءً وضباطاً في المستشفيات العسكرية، ثم يتم توزيعنا بين الوحدات الفعّالة.
باشرنا دورة الصنف في مقر مدرسة الطبابة العسكرية الواقعة عند جسر ديالى القديم في بغداد، وتضمّنت الدورة محاضرات طبية وعسكرية.
ركّزت المحاضرات الطبية على إصابات الحرب وطرق الإخلاء والنظام الصحي من وجهة النظر العسكرية، الى جانب بعض المحاضرات في العلوم العسكرية المملّة.
لم يكن أغلبنا متحمساً للحياة العسكرية الجديدة، فالراتب بالكاد يكفي أجور النقل اليومية بالنسبة لنا نحن أبناء بغداد، أما أبناء المحافظات الأخرى فالمسألة أكثر تعقيداً مع نظام النزول اليومي في الدورة، إذ لا توجد أماكن للمبيت وذلك أمر يثقل كاهلهم.
كانت أوضاعنا المالية متدنية جداً، حتى أن شراء بدلة عسكرية إضافية يمثل معضلة لكثير منا.
استمر هاجس المشاكسة الذي جلبناه من الكلية العسكرية الى دورة الصنف واعتدنا الفرار بعد ساعات الحضور الصباحي الأولى!
الجميع تقريباً، يتكلّم عن كيفية الهروب من العراق، فسقف الأمل هزيل ومتهالك، حتى أن أحد الزملاء غالباً ما يتساءل بمرارة..
ترى ما الذي يمكن أن تفعله أكثر من أن تكون ضابطاً وطبيباً كي تعيش بكرامة؟!
حياة الفقر القاسية وإعالة أخوات كثيرات أسباب دفعته لتلك الأسئلة الحزينة، حتى أن بعض الزملاء كانوا يتبرّعون له بشيء من رواتبهم!
حديث الهروب من العراق شائع بيننا، أما الحديث عن الزواج والاستقرار فمستهجن تماما، إذ إنَّه قيد يمنع الانطلاق لعالم أوسع.
كنا نسمع قصصاً خرافية عن زملاء أطباء مدنيين سافروا وارتقى وضعهم الى الأفضل بكثير.
ذات مرَّة، ذكر زميل لنا أنَّ أخاه المقيم في لندن أرسل له مبلغ 1000 دولار أمريكي!
استغرب زميل آخر وتساءل عن قيمته مقابل الدينار العراقي، فأجابه أحدهم: إنه يعادل راتبك لعشر سنوات تقريباً!
في أول شهر تغيّب زميلنا طارق أحمد مدة أسبوع، سمعنا بعدها أنه غادر العراق، تفاجأنا وساورنا القلق على مصيره، لكنّا غبطناه جداً وأكبرنا فيه شجاعته.
حملت دورتنا الرقم 31، ومجموعتنا تحديداً من أكثر الضباط مشاكسة وعدم اكتراث بالأوامر، حتى أن مسؤول الدورة وهو برتبة عقيد استعان بمقولة الإمام علي الشهيرة عن أهل العراق: "لقد ملأتم قلبي قيحا" بعد إجراء التحوير المناسب عليها.
قال العقيد مخاطبا دورتنا:
"يا عناصر الدورة 31، لقد ملأتم قلبي قيحاً"!
عند نهاية الدورة يتم توزيع الضباط حسب المحافظات ومسقط الرأس، أهل البصرة يرسلون الى مستشفى البصرة العسكري، وأهل الموصل الى محافظتهم، البغداديون الى مستشفياتهاالعسكرية.. وهكذا.
أعلنت أسماء الجميع ولم تذكر أسماء معظم مجموعتنا المشاكسة وكلُّنا من سكنة بغداد؟!
عرفنا لاحقاً، أن من لم يتم ذكر أسمائهم عدّوا من "الفاشلين" في الدورة وسيتم تنسيبهم حسب رغبة مديرية الخدمات الطبية العسكرية!
صدر كتاب تعييني، باعتباري أحد الفاشلين في الناصرية التي لم أزرها في حياتي.
أزعجني الأمر كثيراً وكذلك أزعج أصدقائي المقربين الذين تم إرسالهم الى العمارة والبصرة والديوانية.
أخذنا بالتّندّر على فشلنا!
سعيت الى مقابلة بعض الأمراء في مديرية الخدمات الطبية العسكرية لكي أشرح لهم ظروفي الخاصة وإعالتي لوالديَّ وإخوتي الصغار، الى جانب فقداني لأخوين في حرب إيران على أمل بقائي وتعييني في بغداد.
قدّمت كلَّ ما يثبت ذلك مع ورقة تأييد من مختار المحلة كما طلبوا، لكن ذلك كلّه لم يشفع لي عند ولاة الأمر.
دفع اثنان من الزملاء "الفاشلين" رشى فتغيّر تنسيبهم الى مستشفيات بغداد!
أبلغونا أن الجيش "أوامر" تنفَذ، وليس رغبات أو حاجات.
تفهّم ضابط عقيد في الخدمات الطبية العسكرية وضعي، لكنّه أكد أهمية تنفيذ الأوامر أولاً، ملمّحاً الى إمكانية العودة الى بغداد خلال 6 أشهر!
ثم نصحني النصيحة التالية:
عليك أن تجرّب الحياة في الناصرية، ربما تحبّها ولن تطلب العودة إلى بغداد أبداً!
رافقت زميلي وصديقي مؤيد كاظم ووالده وأخيه، انطلقنا الى الناصرية بسيارة (البرازيلي) التي يملكها والد مؤيد وهو من الناصرية أصلاً ولديه أقارب هناك.
كانت الرحلة بالنسبة للوالد فرصة طيبة لزيارة الأقارب وتعرّفهم على ابنه الضابط الطبيب.
يعرف أبو مؤيد الطريق جيداً، ويحلو له التعليق على أغلب ما نراه، خاصة بعض المراقد الدينية المهدّمة بعد أحداث انتفاضة الشيعة عام 1991، التي لم يتم إصلاحها بعد، وكان يلحّ في انتقاد صدام وجرأته على هدم مراقد الأولياء.
تلك كانت أول رحلة اتجاوز بها حدود مدينة الكوت، رحلة ممتعة حقّاً بوجود أشخاص مريحين مثل مؤيد وأبيه.
وصلنا قبل ثلاثة أيام عن موعد تاريخ المباشرة في الوحدة العسكرية، وتقاليد الجيش تلتزم بتواقيت المباشرة حرفياً.
نزلنا في أول يوم عند بيت قريب لهم في ناحية الغراف، بيت لعائلة فقيرة في أيام الحصار الاقتصادي المؤلم، ومع ذلك كانوا في غاية الكرم وسعدوا بحضورنا، تحدّثنا واستمعنا لبعضنا طويلاً خلال الليل، الأمر الذي خفّف عليّ وحشة الليلة الأولى وألم نقلي الى الناصرية.
في صباح اليوم التالي، انطلقنا إلى الناصرية عند قريبهم أبي زينب، وهو رجل في منتصف العمر، اسمر نحيل وحاضر النكتة دائماً، كما أنّه كريم حدّ المبالغة ويبدو أنّه في بحبوحة من العيش نتيجة عمله معقّباً للمعاملات الرسمية في محكمة الناصرية، حتى أنه حكى لنا عن بعض أساليبه الطريفة والمضحكة في الحصول على المال، ونظراً لطابعه المرح ومشاغله الكثيرة، غالباً ما كان يردّد العبارة ذات الإيحاء الايروتيكي التالية: "وقتي مضياك"!
أخذنا أبو زينب في جولة في الناصرية ليومين متتاليين ليعرفنا على معالمها وهي ليست كثيرة على أي حال، وبرغم طرافة شخصيته، كان كثير التذمّر من حالة الإهمال الذي تعانيه مدينة الناصرية، ويعتقد أن نظام صدام حسين يتعمّد محاربتها.
في السادس من كانون الثاني 1994، دخلنا مستشفى الناصرية العسكري وباشرنا العمل ضباطاً أطباء لأول مرّة.
يقع المستشفى في الضفة الشرقية لنهر الفرات خارج مدينة الناصرية، بداية بستان في الطريق الى ناحية سديناوية المعروفة ببساتين النخيل، محاط بعدّة بيوت متناثرة حوله، بناية قديمة متهالكة وبلا أجهزة تدفئة او تبريد وكانت مستشفى العزل للأمراض المعدية قبل 40 عاماً.
العمل طبيباً مقيماً بلا أدنى خبرة عملية تحتاج الى دعم ومراقبة من هم أكثر خبرة، مسألة أساسية لبداية جيدة، وهو شيء لم نحصل عليه للأسف.
إنَّ جوهر عمل الطبيب هو خدمة المريض؛ الشخص الأهم في المستشفى، هذا ما تعلمناه في دراسة الطب، لكن ما وجدناه خلاف ذلك، فالمرضى وهم من فقراء الجنود يُعاملون بطريقه استعلائية من الضباط الأطباء ولا تؤخذ شكواهم على محمل الجد مع غياب معظم العلاجات الأساسية بسبب الحصار المضاعف، من العالم وحكومة البعث في الوقت نفسه. المنتسبون يتغيّبون باستمرار او يتركون عملهم مبكراً لعمل ثانٍ خارج أوقات الدوام الرسمي للحصول على مصدر رزق آخر.
كانت الطريقة الوحيدة للحصول على الدم لنقله الى مريض آخر، هي التبرّع من أحد المنتسبين مقابل إجازة أو لوجه الله!
أما الكفوف الطبية فنستخدمها أكثر من مرّة بعد غسلها بماء النهر!
التناحر بين الأطباء الاختصاصيين واضح ويعيب أحدهم عمل الآخر بطريقة طفولية أحياناً، يتذمّر الجميع من وجودهم في الناصرية، فأغلبهم من خارجها.
التعامل مع الأطباء المقيمين خاطئ تماماً، ويجري بطريقة عسكرية صرفة أكثر منها مهنية ومحترمة، أحيانا، يحصل الخلاف حول قضايا تافهة من وجهة نظري، حول الأكل او الشاي مثلاً، وأحياناً حول أهل الناصرية، البعض يطلق عليهم تسمية "الشجرة الخبيثة" وحين يقوم أحدهم بالدفاع عنهم وعن فقرهم وحرمانهم يتهمونه بعدم الانضباط واحترام الرتب العسكرية!
ولدى بعض الضباط انطباع مُسبّق عن الدورة 31 المشاكسة!
بلغت مرحلة عدم الرضا والنزاع بين زملاء المهنة، أن طلب الاختصاصيون عزل مطعم الضباط المقيمين عن ذوي الرتب العالية وفعلاً تم عزلنا!
ذات مرّة، تسلّلنا أنا وزميلي الدكتور أحمد حسن الى مطبخهم، وضعنا كيساً كبيراً من الملح في إبريق الشاي!
سمعنا بعد ذلك صراخهم من طعم الشاي المقزز ولومهم عامل المطبخ.
فيما نحن نضحك منهم!
حرصت على إقامة علاقة طيبة مع كل المنتسبين وترك الأمور العسكرية جانباً، سعيت لتقديم أقصى ما عندي لفقراء الجنود، وذلك أشعرني بقربي منهم والابتعاد عن الضباط.
يقدم المستشفى العسكري العلاج لمنتسبي الأمن والمخابرات والاستخبارات في الناصرية وما أكثرهم، لذلك تجنّبت التعرّف او السلام عليهم، بينما يحرص بعض الزملاء على ذلك لأسباب شتى.
كان راتب الطبيب المقيم نحو 7 آلاف دينار عراقي وهي أكثر من دولارين بقليل، حتى أن شراء علبة سكائر ليس أمراً يسيراً!
يعوّل الاختصاصيون على عياداتهم الخاصة، بينما لا نستطيع نحن ذلك، وكان يحقّ لنا العمل في عيادات حكومية مدنية تُفتح مساءً للمواطنين، لكن ذلك يصطدم بعقبة كتاب عدم الممانعة من المستشفى العسكري الذي يوافق عليه الآمر، والأخير لم يوقّع كتابي!
كان آمر المستشفى طبيب أسنان برتبة عميد في الجيش، من أهالي بغداد، والمفارقة أنّ عيادته في منطقة حي الأمين حيث أقيم.
اقترح بعض الزملاء عليّ زيارته في عيادته والطلب منه توقيع الكتاب، وهو شيء لم أرغب به.
تحدّثت مع عنصر في حظيرة أمن المستشفى عن إمكانية طبع وختم كتاب عدم الممانعة باسمي الى دائرة صحة ذي قار، فوافق لأجلي!
تسلّمت الكتاب وجئت به الى زميلي الدكتور علي كاظم ليوقعه، فهو أفضل من كان يجيد تقليد تواقيع جميع الضباط!
تابعونا في الاسبوع القادم... ومع فصل: