الى وقت قريب كان الرأي السائد أن القصة أو الاقصوصة، الحكاية كما اطلق عليها "غي دي موباسان" هي اقل مرتبة من الرواية في نظر بعض النقاد والدارسين للاجناس السردية. بينما نقرأ في السطر الاول من كتاب "ميشال بوتور" "بحوث في الرواية الجديدة" {ان الرواية هي شكل خاص من اشكال القص} فحين اخضعها الناقد الفرنسي "جان بوبون"للتشريح في كتابه الزمن والرواية" {بان القصة القصيرة تحدث في شخصية واحدة اوعدة شخصيات قطعا عرضا. اي انها توقف هذه الحياة لتثبتها في حالة تعتبرها ممتازة بسبب الدلالة التي تمتلكها بينما الرواية تريد بالعكس ان تتابع حياة فرد معين او على اي حال تريد ان تقتفي اثرا معينا فتقوم بقطع طول} 1..
وعليه ان حجر السرد كله قصصي حكائي بكل اشكاله المتعارف عليها. وبقيت القصة القصيرة تدور في فلك الموباسانية محتفظة بالعناصر الاساسية المتمثلة بالشخوص والمكان والزمان والتدرج. ان هناك كتاب عظماء انتجوا قصصا قصيرة رائعة وبقيت وستبقى خالدة. لكن الخطأ الذي يتكرر بارجاع القصة القصيرة جدا الى القصة القصيرة التي تواجه الاتهام ذاته بانها اقل مرتبة من الرواية.
عودة على بدء ان ظهور القصة القصيرة جدا هي نتيجة لتحولات العصر الكبيرة والمتسارعة والتي يصعب ادراكها واللحاق بها.
ورغم ان القصة القصيرة جدا بقيت عقودا طويلة ينظر اليها بانها جنس متمرد على القصة القصيرة وكسرت الموباسانية للقصة القصيرة وهشمتها بنيويا وخلخلت الزمكانية بتناسق جمالي خاص واعادة الحكاية بشكل اخر مغاير تماما عما هو سائد بطاقة شعرية ولغة في غاية التكثيف والاقتصاد والتخلص من الفائض اللغوي في استخدام مغاير للمفارقة والدلالة.
في حين اعتبرها البعض انها خرجت من عباءة الشعر بسبب المجاز والتلوين والتكثيف والايجاز والشاعرية بين طيات هذا النص القصير جدا الذي يعتمد على السرد ويمتلك اساليب سردية جديدة خاصة به.
ان كل نص اوجنس ادبي يتم تاصيله من خلال مرافقة نقدية معرفية ومنهجية لكشف مواطن القبح والجمال وتفكيك شفراته السيميائية، ولا يترك النص دون تقويم نقدي من خلال اخضاعه بنيويا ودلاليا ووظيفيا وهذه مهمة النقد. "ولاينتظر من النقاد وضع معنى لحياتنا انما الجدير بهم السعي لعمل اقل خطرا بوضع معنى لطرائقنا التي نتبعها". 2 والناقد هو من يضع مقاربات متعددة للحكم على النص بعيدا عن المزاج ،أن الدوافع الوحيدة التي تحكم عمله هي علاقة تلك المقاربات مع النص انطلاقا من "ان مايصلح للبحث عنه في النصوص هو كل مالايقبل الشك وماهو غير متوقع وهما مسؤولية الكاتب غير انهما لايحملان معنى الا بواسطة القراءة وتدخل القاريء ومن دون النقد النص يتلاشى" 3 والادب كتابة وقراءة اساسه تاويل وتعليم كما تقول "فرانسوار غابيار" في حديثها عن "فلوبير":
{اذا اسهم النص في جعل مكان يبنى فيه رد فعل الانسان اتجاه الواقع وخطابا من خطاباته حول وضعه بين المخلوقات والاشياء والاحداث، وهو اقلها تعرضا للاستنزاف وللخروج من دائرة التداول بفعل تقادم الزمن عندها سيكون النقد فتحا حاسما للحداثة ان كل شيء هو تاريخي اجتماعي سياسي.
لكن النصوص هي دوما نصوص مكان وزمان. وبمعنى اخر يقول "آن موريك" في مؤلفه النقد الادبي المعاصر "نحن مخلوقات تاريخية يقيدنا تناهينا، ولذلك فان المعنى سوف ينوع بنوع ظروف الحياة التي نحياها} مما تقدم نفهم ان لابد من مرافقة القصة القصيرة جدا بصفتها نصا مكتوبا وفق نمط سردي وجنس من السرديات بحاجة الى تقويم نقدي وجمالي ولاتترك الامور على عواهنها بعد ان اتسعت دائرة القصة القصيرة جدا واختلط على البعض التصنيف لتداخلها مع الاجناس الادبية وتقاربها والاستفادة المتبادلة من بعضها البعض فنحن اذن بحاجة الى قارئ متفحص وبصفة الناقد قارئا بخيال رحب يمتلك ناصية المعرفة في التقييم والحكم والاستنباط بوسائل معرفية وطرائق متعددة واخضاعها لمعايير واساليب بعيدة كل البعد عن المزاج والانطباعية المبتذلة فكان لهذا الناقد دور كبير في ترسيخ القصة القصيرة جدا من خلال اخضاعها لمقارباته المنهجية وطرائقه التي يتبعها او يتبناها.
من هنا ظهرت دراسات ومقاربات وانطلوجيات عديدة ساهم بها اكاديميون ونقاد وكتاب القصة القصيرة جدا ذاتهم. وهي كثيرة جدا وبات يتعذر علينا حتى متابعتها وباتت مصادر للدارسين والمهتمين والقراء.
وتلاحق القصة القصيرة جدا عند بعض النقاد التصنيف على اساس الجنس بين المراة والرجل علما ان هناك عددا كبيرا من النساء يكتبن ويبدعن في القصة القصيرة جدا، مثلما هن كاتبات ومبدعات في شتى الاجناس والضروب الفنية والادبية ومصطلح ادب نسوي او ادب انثوي هو مصطلح اشكالي وغير محايد لم يبت به بعد حتى بين الكاتبات انفسهن.
وحين نقرأ نصوصا مترجمة لانعرف هل هذا النص لرجل ام لامراة لان الاثنين معنيان بقضايا الانسان والوجود وكل القضايا الاخرى والاشياء من حولنا بالدرجة نفسها دون تميز هذه اشكالية عميقة تعود لاسباب اجتماعية وسياسية وتاريخية. ووضع الكاتب كله مقلق في الوطن العربي سواء كان رجلا ام إمرأة. اعتقد انها مشكلة يعاني منها الجميع وكما تقول القاصة "صبيحة شبر": "الكتابة نوع من الابداع، مباحة أمام المرأة، باختلاف المواضيع التي تتطرق اليها وتتناولها بالدراسة والمعالجة وقد أثبتت الكثير من المبدعات كفاءتهن في هذا المجال، ولكن هذا الموضوع يطرح علينا سؤالا:
هل ان المراة الكاتبة تتمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الكاتب الرجل، مع ان الجنسين يعانيان من قلة سبل النجاح ومن صعوبة الطباعة، وندرة فرص التوزيع واتاحة الفرصة، لاطلاع القاريء على النتاج الادبي؟.
فالمراة المبدعة تعاني كثيرا، لانها لاتستطيع نشر ابداعها، كما ان كثرة الاعباء عليها، والتوزع بين اعمال المهنة والامومة والزوجية، والاطلاع على ما ينشر من مطبوعات، والاهتمام بالكتابة ايضا من العوامل التي ترهق المراة الكاتبة، وتحد من تجربتها الابداعية، كما ان المبدعة لاتفوز بالتفرغ للكتابة، كما هو حاصل في الدول التي تحترم الابداع، وتمنح الجوائز للمبدعين، معتبرة اياهم ثروة قومية يجب المحافظة عليها، من التشتت وضياع الموهبة واندثارها، لان القدرة على الكتابة ككل موهبة، تحتاج الى تمرين وعمل فكري متواصل وبعض التفرغ" 4 وهذا الموضوع سنتناوله بمقال اخر ونسلط الضوء على معاناة ومحنة الكتابة والكاتب بشكل اكثر تفصيلا.
- فاطمة بوزيان {المغرب}
يوسف
كان يوسف يحب الطائرات..
سمع الكبار يتحدثون عن طائرات دمرت أبراجا عالية فمزقها وأحب يوسف صناعةالزوارق..
سمعهم يتحدثون عن زوارق الموت فأغرقها في الماء راح يلعب في سيارات صغيرة.. رأى في التلفزة سيارات تنفجر ودماء ودموعا فهجر اللعب، وقال إخوته:
- كبر يوسف!
- مطيعة محمد احمد {السودان}
مسير
في طريقي إليك لاحظت أن حِذائي بالٍ” جداً “..
فعرفتُ أنني علي هذه الطريق منذ وقت طويل ..
فعدتُ أدراجي وتركتُ حِذائي يواصل مسيره اليك.
سيرتي العطرة
ألأفواه التي في مدينتي..
تعفنت من كثرة الصمت.
لذلك تركتهم يلوكون سيرتي.
- حنان باشا { الاردن}
إدمان
قام بصف سيارته
على عجل؛ لم يكترث كثيرا انه يعيق حركة الطريق ركض سريعا الى البقالة
وعاد على وجهه لمسة ارتياح
حصل على زاده لتلك الليلة
ثلاث علب سجائر!
- ماجدة مشلب الغضبان { العراق}
الصنم
أردته مختلفا هذه المرة..!
إستغرق صنعه أياما وليالٍ طوال. جاهدت أن أتجاوز العيوب السابقة في أصنامي والتي دفعتني الى تحطيمها تباعا. صيّرته أنثى، وأبرزت الثديين كابرز ما في جسده. بدا لي كيانا متماسكا من الجمال. ولكي أراه أشد فتنة عملت لساعات طوال على إعداد زينته. صنعت قلائده وأساوره وقُرطَي أذنيه بيديّ. ثم أقبلت على خياطة ملابسه الأنثوية المثيرة. وحين انتهيت من كل ذلك أخذت أدوات التجميل لأكحل عينيه وأضع أحمر الشفاه المتفق مع ألوان ثيابه. كان صنما مهيبا وسط الصالة. سجدت أمامه لثوان، وابتدأت الطواف بمهابة حول صنمي الجديد.
المشهد للقصة القصيرة جدا واسع ومتشعب نصا ونقدا ونشرا في الوطن العربي وهناك اكثر من رابطة وملتقى وقد اعطى انطباعا سيئا عند بعض الكتاب المعترضين على القصة القصيرة جدا كجنس سردي ادبي.
واعتقد مهما بالغنا بالقاء نظرة شمولية على القصة القصيرة جدا في الوطن العربي ستكون النتجة ذاتها "منقوصة" اورصدا محدودا غير مكتمل لان هناك من اكتفى بطبع مجموعة او اكثر ورقيا او في الصحف والدوريات الورقية المحلية واخرين اتخذوا من الانترنت وروابطه الافتراضية الاخرى مكانا لقصصهم ونصوصهم السردية المجهرية او القصيرة جدا، وصفناها في مقال منشور بانها قصص الافتراضي الساحر "الانترنت" لكثرة المواقع التي تهتم بالقصة القصيرة جدا اضافة الى صفحات التواصل الاجتماعي.
منحت القصة القصيرة جدا الكاتب فسحة من الانتشار السريع والمشاركة الواسعة والتفاعل مع نص سردي ملائم للعصر والعولمة وتحقق قدر كبير من الملاءمة بسبب ميزة السرعة الفائقة التي تسيطر على العصر والانسان وقد ساهم الانترنت ووسائل الاتصال الرقمي بانتشار القصة القصيرة جدا بتفاعلية أكبر لموائمتها مع تلك الوسائل وتفاعل القراء معها بسرعة لما تحويه من امتاع عالي وخيال ، فاخذت حيزا كبيرا كتابة وقراءة وانتشرت بشكل لم يرض بعض المعترضين ودافع عنها البعض الاخر بإستماته وقوة ، وتباين الاراء بين الثناء والاعتراف وبين النفور والانكار.
وهذا ديدن كل حديث من الفنون والابداع كما ذكرنا سابقا والامر متروك للمستقبل فقصيدة "الهاينيكو" او" الهايكو" في اليابان التي ظهرت في القرن السابع عشر واشتهرعلى يد "ماتسو باشو 1644- 1694" واخرين وهي قصيدة مؤثرة في مشهد الشعر الياباني، والهايكو لايتجاوز بيتا واحدا فقط مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا ويكتب عادة في ثلاثة اسطر وهي قصيدة اللحظة الانسانية العفوية بالفاظ بسيطة عالية التصويرية والشعرية .
في مطلع القرن العشرين اصبحت نموذجا جديدا في عوالم الشعر العالمي وتاثرت به قامات شعرية عالمية لها مكانتها واصبحت الشغل الشاغل لمجموعة كبيرة من الشعراء العرب مؤخرا بعد ان كانت قصيدة التفعيلة مستهجنة في بداياتها وكذلك القصيدة الومضة، ما نريد قوله ان لكل جديد ارهاصاته في التاثير اذا ما اخذ مداه الزمني والابداعي، وبصفة الادب والسرد فعل انساني كوني لاحدود له. وهذا ما ينطبق تماما على القصة القصيرة جدا والقصة الومضة التي تجنبت الخوض بها لانها تختلف عن القصة القصيرة جدا في الشكل والتكنيك.
الاحالات
1.اقاقصيص معاصرة - عن الفرنسية ترجمة نهاد التكرلي - دائرة الشؤون الثقافية بغداد 1980.
2.الاحساس بالنهاية – البروفسور فرانك كرمود ترجمة الدكتور عناد غزوان وجعفر الخليلي – دائرة الشؤون الثقافية بغداد 1979.
3.مدخل الى مناهج النقد الادبي – تاليف مجموعة من الكتاب ترجمة رضوان ظاظا – المجلس الوطني للثقافة الكويت .1987
4.متاعب المراة المبدعة مقال صبيحة شبر – الحوار المتمدن 17/9/2010.