في تموز الماضي تحدث الرئيس الأمريكي باراك اوباما لصحيفة وول ستريت وقال: اذا لم نضع القوانين في منطقة جنوب شرق آسيا فإن الصين سوف تضع القوانين في تلك المنطقة. هذا ان دل على شيء، فإنه يدل على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة الأميركية لتلك المنطقة، خصوصاً وان الكثير من الدلائل تشير الى نوايا الولايات المتحدة لإحتواء الصين ومنع تمددها وتوسيع نفوذها على حساب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الذين يتنازعون مع الصين على بعض الجزر في المنطقة، إضافة الى مخاوفهم من الطموح الصيني الإقتصادي والسياسي في المنطقة. حديث الرئيس اوباما كان من ضمن الحملة التي كان يقودها داخل الكونغرس لإقناع النواب الأميركيين بأهمية اتفاقية التجارة المعروفة "بالشراكة عبر المحيط الهادي" التي تتفاوض عليها الولايات المتحدة الأميركية مع 12 دولة في المنطقة والتي بدأت المحادثات لتوقيعها منذ العام 2002 والتي وافق عليها الكونغرس الأمريكي مؤخراً واعطي الضوء الأخضر لإدارة اوباما للتوقيع على الإتفاقية.
وزير الدفاع الامريكي اشتون كارتر وتأكيداً على اهمية هذه الإتفاقية ذهب ابعد من الرئيس اوباما وقال: ان تمرير الإتفاقية بالنسبة له يعتبر من حيث الأهمية كأنها حاملة طائرات اخرى.
الدول الاثنتا عشر التي تشارك في المحادثات الى جانب الولايات المتحدة لتوقيع الإتفاقية هي اليابان، بروناي، التشيلي، كندا، ماليزيا، نيوزيلاند، المكسيك، بيرو، سنغافورة، فيتنام واستراليا. لا شك ان الولايات المتحدة تولي أهمية استراتيجية لتلك الإتفاقية لما لها من أهمية على الجغرافيا السياسية للمنطقة، والتي قد تفوق أهميتها الجوانب التجارية وهذا ما يؤكده الخبير الإقتصادي الأسترالي مانويل بناجيوتوبولس من منتدى الخبراء الإقتصادي الياباني الأسترالي الذي يقول: ما لا يأخذه معظم الإقتصاديين بعين الإعتبار ان الجغرافيا السياسية اكثر اهمية من الحركة التجارية وتعتبر ان الأمن هو اساس الحركة التجارية التي تتوقف تلقائياً اذا كانت الظروف الأمنية غير ملائمة (صحيفة ذي صن هيرالد 26/07/2015 ص 5). يبدو ان اليابان المستفيد الأول من هذه الإتفاقية، والتي من المتوقع ان تحقق نمواً اقتصادياً ما بين 2 الى 4 % خلال عقد من الزمن خصوصاً لأن احد أهم البنود التي تتضمنها الإتفاقية وضع قيود مشددة على استثمارات الشركات المملوكة من الدول وكأنها اشارة غير مباشرة الى الصين مع العلم بأن فيتنام والتي تدير فيها الدولة القطاع الإقتصادي وتملك معظم الشركات وافقت على ذلك البند لما تستشعره من خطر نمو النفوذ الصيني.
ماذا عن استراليا، وزير التجارة الأسترالي اندرو روب رأى ان هناك فوائد عدة ستحصل عليها استراليا من الإتفاقية خصوصاً قطاع تصدير لحوم الأبقار بالإضافة قطاع الخدمات وابدى خشيته من ازدياد اسعار الأدوية وبعض الخسائر التي تطال قطاع صناعة السكر. وهنا يبرز السؤال الأهم ماذا عن العلاقات الأسترالية الصينية؟ حيث تحتفظ استراليا بعلاقات اقتصادية قوية مع الصين ووقعت معها اتفاقية تجارة حرة هذا العام.
يقول اندرو ستولر المستشار التجاري الاسترالي والنائب السابق للمدير العام لمنظمة التجارة العالمية: نحن والصين نريد ان تنضم الصين الى الإتفاقية عاجلاً وليس آجلاً (صحيفة ذي صن هيرالد 26/07/2015 ص 5). هذا عن الرغبات الاسترالية، لكن ماذا اذا كانت ارادة الولايات تختلف عن ارادة استراليا ورغباتها ومصالحها؟ فهل تستطيع استراليا رفض طلب الشريك الاستراتيجي الأول؟ خلال الأشهر القليلة الماضية برزت عدة تصريحات لبعض المسؤولين الأستراليين تظهر الموقف الاسترالي والذي يعكس بعض القلق من الدور الصيني في المنطقة. وكان تقرير مشترك صادر عن الجامعة الوطنية الاسترالية ومركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية قد اظهر قلقاً من سلوك الصين في جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي وخطر انجرار استراليا الى صراع مسلح مع الصين ودعى التقرير استراليا الى ان تكون "مركز المحور" للمنظومة العسكرية للمنطقة التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة، ووجد التقرير ان واشنطن بحاجة اكبر الى استعمال القواعد الجوية والبحرية الاسترالية. ورداً على تحذيرات التقرير حول قدرات الصين العسكرية قال رئيس الوزراء الاسترالي طوني ابوت انه يريد التركيز على تعزيز الصداقة مع الصين بدل التركيز على احتمالات مفترضة لسنوات وسنوات قادمة (صحيفة سدني مورنيغ هيرالد 14/07/2015 ص 5) والجدير ذكره ان ابوت كان قد حذّر الصين بقوة من العبث بالوضع القائم حالياً في بحر الصين الجنوبي في اشارة الى محاولة الصين الإستيلاء على الجزر المتنازع عليها مع اليابان والفليبين وفيتنام وبعض الدول الاخرى (س م ه 30/06/2015 ص 8).
والمعلوم ان الصين تعمل على بناء قواعد عسكرية على بعض الجزر، وبناء جزر اصطناعية ايضا حيث استكملت بناء 800 هكتار حتى الان ، حيث تتخوف الولايات المتحدة وحلفائها من تهديد الصين لحركة الملاحة البحرية والجوية في المنطقة التي تعتبر اهم معبر بحري تجاري في العالم والذي تعتمد عليه استراليا بشكل كبير واساسي في تجارتها.
نشير الى ان وزير الدفاع الاسترالي كيفن اندروز واثناء مؤتمر شنغرالاي للحوار في سنغافورة اواخر أيار الماضي، قد اصدر اقوى تحذير للصين حول تصرفاتها في بحر الصين الجنوبي مشيراً وبقوة لإستعداد استراليا للإنضمام الى الولايات المتحدة والدول الأخرى ضد عسكرة بحر الصين الجنوبي (س م ه 01/06/2015 ص 1).
على خلفية هذه التطورات، والخوف من نمو قدرات الصين، تعمل استراليا واليابان لتوقيع اتفاقية لتبادل الخبرات العسكرية وإجراء المناورات العسكرية والتعاون الاستراتيجي بين البلدين، والمعلوم ان العلاقات بين البلدين تطور بشكل ايجابي وبسرعة في ظل حكومة طوني ابوت اليمينية الاسترالية وحكومة شيزو ابي اليابانية اليمينية، ويحتمل ان تعمد استراليا لشراء الغواصات اليابانية لتحل محل اسطولها القديم من الغواصات.هذا قبل ان تسرب ويكيلكس الاسبوع الماضي معلومات عن تجسس الولايات المتحدة على اليابان وتقاسم تلك المعلومات مع استراليا، وهنا يبرز السؤال من سرب واختيار التوقيت وهل ستؤثر تلك التسريبات على العلاقات اليابانية الاسترالية والاميركية ومن ثم على المحادثات الدائرة بين الولايات المتحدة ومجموعة الدول الاثنتا عشر المشاركة في محادثات الشراكة عبر المحيط الهادي والتي تعرضت لنكسة الاسبوع الماضي بعد سحب الولايات المتحدة عرضاً كانت قدمته سابقا لاستراليا يتعلق بقطاعي السكر والاجبان والالبان، بالاضافة الى اسرار الولايات المتحدة على ادخال تعديلات على بعض القوانين المعمول بها في الدول الاخرى بعد توقيع الاتفاقية والتي ادت الى تأخير توقيع الاتفاق النهائي وتمديد المحادثات الجارية في هاوي حتى اواخر الشهر الحالي.
أخيراً، الشيء المؤكد ان هناك توتراً بين الصين وجيراتها الذين يحظون بدعم الولايات المتحدة، لكن السؤال المهم ما هي السبل للحد من هذه التوتر ومنع الإنفجار في ظل النوايا المبيتة لدى الطرفين الذي يظهر في تعزيز المواقع والقدرات؟