منذ تسعينات القرن الماضي لم تشهد استراليا ركوداً سياسياً بالمعنى الكامل للكلمة رغم بعض الفترات التي تراجع فيها النمو، لكن الازدهارالاقتصادي استمر حتى اثناء الازمة المالية العالمية عام 2008 و2009 حيث استطاعت استراليا تجاوزها بأقل الخسائر بفضل السياسة التي اتبعتها الحكومة العمالية برئاسة كيفن راد التي قدمت الحوافز المالية وان شاب تلك السياسة بعض الاخطاء والهدر خصوصا في قطاع تركيب العوازل الحرارية للمنازل التي شملتها الخطة. لكن الملفت للنظر انه خلال العقد الاخير حصل تراجع ملحوظ في الاداء السياسي لقيادات الاحزاب الكبرى (عمال واحرار)،ففي العام 2007 رفض رئيس الوزراء الاحراري جان هاورد التنحي لصالح وزير خزينته بيتر كوستيلو فخسر هاورد الانتخابات ليدخل التاريخ ايضاً كثاني رئيس يخسر مقعده النيابي. وصل العمال الى السلطة برئاسة كيفن راد وبدأت الصعوبات تواجه حكومته وبدأ راد سياسية التراجع عن بعض السياسات التي نال على اساسها ثقة الناخبين، والتي اعتبرها اسياسية مثل الحد من الاحتباس الحراري وفرض ضريبة على قطاع المناجم، هذا التخبط ادى الى الاطاحة براد في سابقة هي الاولى من نوعها بالاطاحة برئيس وزراء قبل نهاية الدورة الاولى من عمر حكومته، ففي حزيران2010 انقلب المجلس الحزبي (الكوكس)على راد وانتُخبت جوليا غيلارد خلفاً له هذا الانقلاب خلف جروحاً في جسم الحزب لم تلتئم حتى الان رغم نهاية الحياة السياسية لكل من راد وغيلارد.
ذهبت جوليا غيلارد بعد انتخابها الى انتخابات مبكرة ولم تحصل على اكثرية برلمانية، فأضطرت لتأليف حكومة اقلية بالتحالف مع حزب الخضر واثنين من النواب المستقلين. كانت الطامة الكبرى بتراجع غيلارد عن وعد انتخابي صريح بعدم فرض ضريبة على الكربون للحد من الاحتباس الحراري وبدأت اسهمها تتراجع في استطلاعات الرأي العام وبدأت حكومتها تفقد توازنها السياسي بسبب النزاعات الحزبية داخل حزب العمال الذي عاد وانقلب على غيلارد عام 2013 لصالح كيفن راد، بالأضافة الى النزاعات داخل حزب العمال لعبت الحملة السياسية السلبية لزعيم المعارضة انذاك طوني ابوت دوراً مهماً في زعزعة حكومة غيلارد، وابوت نفسه وصل الى زعامة حزب الاحرار بعد الانقلاب على زعيم الحزب مالكوم تيرنبول عام 2009 الذي كان ينوي التعاون مع راد لمحاربة الاحتباس الحراري، وكان سبق تيرنبول في زعامة حزب الاحرار بعد خسارة انتخابات 2007 كل من الكسندر داونر وبرندن نيلسون. في العام 2013 فاز حزب الاحرار بزعامة طوني ابوت بالانتخابات العامة وحصل على اكثرية مريحة في مجلس النواب بسبب غضب الناخبين من التخبط السياسي لحزب العمال وسياسية الباب الدوار في تبديل الزعامة التي تولاها بيل شورتن بعد خسارة الانتخابات وكان شورتن قد لعب دوراً بارزاً في تقويض زعامة كل من غيلارد وراد مع المجموعة التي عرفت بأصحاب "الوجوه الخفية". لم يستفد رئيس الوزراء طوني ابوت من تجربة غيلارد، فبعد ان نفذ وعده الانتخابي بالغاء ضريبة الكربون والضريبة على قطاع المناجم ووقف تدفق قوارب اللاجئين والاخيرة رغم نجاحها فكان لها كلفة معنوية على سمعة استراليا ، فبعد مضي اقل من عام على توليه الحكم اقدم رئيس الوزراء على خرق عدة وعود انتخابية كجزء من السياسة المالية التقشفية التي اعتمدتها الحكومة في ميزانيتها الاولى ومن تلك الوعود فرض رسوم على زيارة الطبيب وزيادة الرسوم الجامعية وفرض فترة انتظار 6 اشهر على العاطلين من العمل للحصول على علاوة البطالة والأقتطاع من ميزانية اذاعتي اس بي أس وأي بي سي وغيرها، مما اثار غضب الرأي العام ومعارضة حزب العمال لتلك الميزانية والتي عارضها ايضا النواب المستقلين في مجلس الشيوخ الذين يتحكمون بميزان القوى هناك حيث تحتاج الحكومة الى اصوات 6 نواب لتمرير مشاريعها لتصبح نافذة. بسبب تلك السياسة استهلكت الحكومة معظم راس مالها السياسي ودخلت مرحلة انعدام الوزن والتخبط وصلت في شباط الماضي الى درجة طرح الثقة برئيس الوزراء من قبل نواب المقاعد الخلفية في حزب الاحرار وقد منح ابوت فترة 6 اشهر لأستعادة المبادرة السياسية وتحسين وضع الحكومة وإداءه الشخصي. بأختصار، فمنذ عقد من الزمن تقريباً فإن الوضع السياسي في البلاد ينطبق عليه وصف راوح مكانك اي انه اصيب بالركود والعجز بسبب السياسات الكيدية والسلبية التي مارسها الاحرار اثناء وجودهم في المعارضة والتي تبناها حزب العمال منذ خسارته انتخابات عام 2013. سببت هذه السياسة التي اتبعها الطرفين ضياع فرص عديدة للأصلاح في اكثر من قطاع كالضريبة، اماكن العمل، التعليم، معاش الادخار التقاعدي، رعاية المسنين، الصحة، الطاقة المتجددة، زواج المثليين والاعتراف بالسكان الاصليين في الدستور الذي يوجد عليه نوع من التوافق بين الحكومة والمعارضة وان كانت المقاربة مختلفة. كل ذلك رغم ادراك الحزبين لأهمية تلك الاصلاحات لحماية البلاد من اي ازمة اقتصادية او مالية مستقبلية، لكن انعدام الرؤيا السياسية والاكتفاء بسياسة ردة الفعل والكيدية ومراقبة استطلاعات الرأي من اجل البقاء في السلطة او من اجل الوصول الى جنة الحكم، ولما لا حيث هناك الامتيازات والعلاوات . ولنأخذ مثلاً عن هذه السياسة والتكتيك المتبع، فإذا تحدث حزب العمال عن محاربة الاحتباس الحراري تنشط الماكينة الحكومية في حملتها التخويفية من ان العمال يريدون اعادة فرض ضريبة الكربون فيصاب العمال بالهلع ويتراجعون وينفون اي نية لديهم لتبني لهكذا مشروع! اما اذا تحدث الاحرار عن اصلاح نظام اماكن العمل فيتلقف العمال الفرصة كليلة القدر ويشنون حملة تخويف عشوائية بأن الاحرار يريدون العودة الى سياسة حكومة هاورد المعروفة "بخيارات العمل" والعقود الفردية بين الموظفين وارباب العمل والتي كانت احد اهم الاسباب لخسارة هاورد الانتخابات عام 2007.
النموذجين اعلاه يمكن اسقاطهما على كافة السياسات الاخرى، بالأضافة الى سياسة ردة الفعل هذه هناك افتقار للدور القيادي في رأس الهرم الحزبي لدى الطرفين(عمال واحرار)حيث تظهر استطلاعات الرأي المتتالية والتي كان آخرها الاحد 9/8/2015 في صحيفة ذي صن هيرلد ان شعبية رئيس الوزراء طوني ابوت وزعيم المعارضة بيل شورتن في ادنى مستوياتها مقارنة بشعبية اي رئيس وزراء او زعيم معارضة سابقاً. وقد اظهر استطلاع الصن هيرالد ايضاً تقدم كل من وزير الاتصالات مالكوم تيرنبول (45.4%) وجوليا بيشوب وزيرة الخارجية (24.4%) على رئيس الوزراء طوني ابوت كمفضلين لتولي رئاسة الوزراء حيث نال ابوت (18.9%) من اصوات المستطلعين الذين بلغ عددهم2543 شخص. ولم يكن وضع زعيم المعارضة افضل من وضع رئيس الوزراء تقدم انتوني البانيزي (40.1%) وتانيا بليبرسك (34.9%) كمفضلين على شورتن لتولي زعامة المعارضة حيث نال شورتن (25%) من الذين استطلعت آراءهم، الجدير ذكره ان البانيز كان قد نافس شورتن على زعامة الحزب وفاز بأكثرية اصوات الحزبيين بينما تغلب عليه شورتن باغلبة اصوات الكتلة البرلمانية للحزب وقد جرت الانتخابات بموجب النظام الانتخابي الجديد الذي اعتمده الحزب.
ما تقدم، ان دل على شيء، فأنه يدل على اهتزاز ثقة المواطنين بالسياسيين حيث النقص بالمصداقية، وبسبب الاداء السيء او الفضائح التي بدأت تزكم الانوف حول استغلال السياسيين من الطرفين لنظام المستحقات البرلمانية والاسراف في الانفاق والتي تفوق توقعات الرأي العام رغم قانونية تلك المصاريف والملفت للنظر انه بعد فضيحة "رحلة الطوافة" لرئيسة البرلمان السابقة برونوين بيشوب والتي اطاحت بها من رئاسة المجلس ظهرت فضائح اخرى تطال نواب من العمال والاحرار وحزب الخضر.
على خلفية تلك الفضائح ظهر نوع من الاتفاق المضمر بين الفريقين رغم افتراقهما على كل السياسات الاخرى كما تقدم، فهذا رئيس الوزراء يرفض التعليق على نفقات النائب العمالي طوني بورك وينجلي انتوني البانيزي العمالي للدفاع عن نفقات وزير التعليم الفيدرالي كريستوفر باين، وباين نفسه يبرر نفقات طوني بورك في ما يبدو اتفاق السياسيين على المواطنين!!
إذن، هي عملية دفاع متبادلة للحد من الضرر السياسي الذي لحق بصورة السياسيين المهتزة اصلاً امام الرأي العام الذي امسك ويدير مع السلطة الرابعة (الاعلام) بازمة اسراف واستغلال السياسيين لمستحقاتهم مما اضطر رئيس الوزراء لتشكيل لجنة خاصة لأعادة النظر في كيفية انفاق تلك المستحقات.نشيرهنا الى ان الحكومة حاولت عند تعديل قوانين مكافحة الارهاب التضييق على حرية الصحافيين والتهديد بسجن الذين ينشرون مواد تعتقد الحكومة انها تهدد الامن القومي وتفرض على الصحافيين الكشف عن مصادرهم لكن حزب العمال عارض هذا البند واشترط ازالته للموافقة على تلك القوانين التي مرر اغلبها خوفا من اتهامه بالتساهل بقضايا الامن القومي رغم ان اراء بعض القانونيين الدستوريين تؤكد امكانين الطعن بتلك القوانين امام القضاء.
اخيراً، يبدو ان الركود السياسي والعجز القيادي هو السمة البارزة في السياسة الفيدرالية الاسترالية الحالية اقله في عمر البرلمان الحالي الذي عاد من عطلته الشتوية الاثنين 10/8/2015 وانتخب طوني سميث رئيساً له خلفا لبرونوين بيشوب ووعد سميث بان لا يحضر اجتماعات مجلس حزب الاحرار واعلن انه سيكون اقل تحزبا وانحيازاً وطالب النواب ان يكون نقاشهم بالمستوى المطلوب، وبذلك يكون سميث مباشرة ميز نفسه عن بيشوب التي وصفت بأنها من اكثر روؤساء البرلمان انحيازاً لصالح الحزب الحاكم حيث وكما هو معروف فإن الحزب الحاكم يختار رئيس البرلمان من بين اعضائه.