في كتابه "البيان والتبيين" دعا الجاحظ ربه الى درء "فتنة القول" واضاف.. "ونعوذ بك من التكلـّف" ثم.."ونعوذ بك من السلاطة والهذر" ثم، يذكّرنا بقول النبي محمد "أياكم والتشادق" وقوله:
"أبغـَضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون"
ويمكن لنا ان نضم الى هذا حكمة الإمام علي في قوله: "وقيمة كل انسان ما يُحسِن" ويؤكد بهذه المناسبة ان لكل زمان "شكل من المحنة".. ويبدو ان محنتنا الان(والكلام هذه المرة لنا) تتمثل في فتنة القول العابر لحدود المنطق والمسؤولية، ما يوصف بالهذيان.
الهذيان في الكلام قد يكون مرضا، لكنه في جميع الاحوال مكروه، مذموم، وبخاصة في حالات التأزم والتوتر واحوال التجييش وانعدام الثقة بين اصحاب الحل والربط والمشيئة والقرار، فهو، إذ يكرر الرطانات والمطولات والديباجات في غير ذي فائدة يزيد من اخطار الاحتقان ويقربه من الانفجار، ويجعل منه بابا الى الفتنة بالنظر الى لجوء "الهاذي" الى وسائل الاثارة واللجاجة والايحاءات والاسهال في الكلام غير المنضبط واللامعقول بمناسبة وبدون مناسبة.
الخروج على التهذيب اصبح سمة الخطب والتصريحات التي تكرر نفسها على مدار الساعة مما يثير الملل، ويوجب القرف، او تلك التي يعوزها ضبط الاشارة الى المقصود، والبقاء على حدود الخلافات في المعلوم، ويقوم صاحبها، او اصحابها، بالحديث المهذار الذي لا طائل منه، ولا نهاية له، ولا هدف ياتي من استطراده غير ملء الفراغ الاعلامي المتاح، واستعراض اللياقة الخطابية وإشغال الخصم في دوامة الردود والتعقيبات، ولا يتواني "الهاذي" من ان يعيد اليوم ما قاله امس بافإضة، كما لا يتواني عن تكذيب ما قاله بالامس.
الهذيان هروب من المحددات والاولويات.
نقيض لثقافة المناقشة بالصريح والمباشر من الامور وتبادل الرأي بالصبر، وهو عدو التأمل وإمعان النظر وتقليب الامور، وصاحبه لا يعرف الاقتضاب والتكثيف والايجاز، وقد يشتهر الهاذي في هذيانه، لكنها شهرة لا تحمي صداقة ولا تدرأ عداوة.
اما عكس الهذيان فهو الوجيز من الكلام، والنأي عن ادوات الفتنة حين تكون الفتنة بحاجة الى عود ثقاب، فقط، ليشبّ الحريق.
*********
"أنا لا أكتب.. إنما أفتح النوافذ ليتنفس القراء.".
ارت بوكوالد