وجدت في حافظتي رسالة كنت وجهتها من على سرير المرض قبل سنوات يوم اغارت فلول بسراويل ودشاديش طاليبانية قصيرة ورطانات دينية عجفاء على شارع الكتب والمخطوطات وصفوف القراء وطالبي العلم، شارع المتنبي.. وحيث وجه مثقفون ارتقوا بمسؤوليتهم الى موضع الحريق، بين لهب يلتهم التاريخ النير وانقاض تتداعى الى اسئلة مدوية.. وفيها:
كيف يمكن لنا ان نتنكر لكم، ايها المثقفون البغداديون الطيبون الذين وقفتم مخذولين فوق خراب شارع المتنبي، وانتم تناشدون شركاءكم في الثقافة والحياة “لكي يرفعوا اصواتهم عالية مع بغداد التي يحتفظ لها سفر الإنسانية بموقعها وقيمتها في هذا السفر كواحدة من اكبر حواضر التاريخ، ومدن التنوير؟.
هل يمكن ان يتنكر احد للوارقين البغداديين الذين صنعوا مجد شارع المتنبي قبل اكثر من الف عام، واسسوا دور النسخ والانتاج الثقافي الرائد، وسقط الكثير منهم على يد السلطات، بينهم الوراق ”مساور “وهو الشاعر الذي هدد بالموت، والسري الرفاء الذي غرم بنشر الممنوعات، وابن ابي العوجاء الذي قُطع رأسه بين العامة، وابو عيسى الوراق الذي قضى موتا في السجن، وابي الحسن بن لؤلؤ الثائر، ومطر الوراق الذي تحدى المنصور وهو في القيد، وعُلان الوراق المشهور بسلاطة اللسان، وهل ننس انه حين قُتل الحلاج خشيت السلطات، قبل اي شئ، من اصحاب دور النسخ والثقافة من وراقي بغداد فاحضرتهم ليتعهدوا بعدم بيع كتب الداعية الشهيد وانصاره، فتعهدوا، ونكثوا.
لعل الكثيرين استغربوا مما فعله البرابرة الجدد في شارع المتنبي ومكتباته القديمة، فليس ثمة في هذا الشارع قاعدة امريكية ولا مركز للشرطة ولا مقر للاحزاب او محفل للسياسيين، بل انه لم يكن ليحتكر فكرا او تيارا او مدرسة، ولم يكن ليوصد ابوابه بوجه معرفة او كتاب، لكن الغرابة تزول اذا ما امعن النظر في ذلك المشروع البشع الذي تصيغ نصوصه السيارات المفخخة واعمال قتل المدنيين ونداءات العودة الى الصحراء، مكانا وثقافة وموقفا، فان حقدهم على دواوين الشعر ودور النشر والثقافة الطليقة موروثة عمن سبقهم من كهفيين وظلاميين وخدم طغاة.
هؤلاء واولئك ينتمون الى فصيلة دم واحدة، وجميعهم من جنس واحد من الغزاة الذين دمروا الحضارات واسالوا دماء الابرياء، وحين دكوا شارع المتنبي، كحاضرة ثقافية بغدادية، واحالوا مخطوطاته وكتبه ودواوينه ومجلداته الى لهب ودخان فقد كتبوا بيدهم الفصل الاكثر بشاعة الارتداد، والنسخة المنقحة لمشروع الردة.
اسمع صوتكم ايها الوراقون الطيبون وانتم تطلقون بالامس نداءكم الجليل:
نقف اليوم وسط حطام شارع المتنبي، ونحن ندرك قيمة ما يمثله هذا الشارع… وهو مايدركه الإرهابيون ايضاً، ولذلك استهدفوه بشرورهم .. لا شرطي في هذا الشارع ولا حكومة ولا احتلال. انه الشارع المأهول بكتب كل الطوائف والملل والأفكار والاتجاهات وبباعتها ومشتريها من مختلف البلاد، وان استهداف شارع المتنبي استهداف للجوهر الثقافي العراقي العابر للإختلافات والهاضم للتنوع والتعدد الشعبي الاصيل.
نعم، أصدقائي، لا تصح المساومة حين يتعلق الموقف بكرامة الكلمة، وكما قلتم: لا ينبغي للمثقفين حيثما كانوا، الإستمرار بالصمت ازاء ما نتعرض له وتتعرض له مدينتنا وشعبنا من جرائم، ينبغي ان يرتفع الصوت الإنساني على الإختلافات لصالح حق الإنسان في الحياة بلا خوف وبلا تهديد.
ارفع صوتي. اوقع. وخذوني معكم الى احتفال الكلمة التي لا تخاف.
******
ابن ابي الحديد:
”سبب حقد الجلادين على الحجاج انهم وجدوا في كتبه لفظ النور الشعشاني “