مر في الثلاثين من آب، يوم المغيبين الدولي بهدوء، ثقيلا وحزينا على الآف العائلات العراقية التي تنتظر، بخذلان ويأس، اية معلومة عن ابنائها الذين اختطفوا وغيبوا وضاع اثرهم. وسواء جرت الاشارة الى المناسبة ام لم تجر، فان جريمة إخفاء الاف المواطنين من مختلف الفئات والقوميات والطوائف ستبقى في ثيابنا تشير الى مسؤوليتنا عن عدم كشف مصائر اولئك الضحايا، في وقت تزداد محنة امهاتهم وابنائهم وزوجاتهم، ما اذا لا يزالون على قيد الحياة او انهم قضوا على يد مختطفيهم، وفي هذا المفصل الاخير تكمن جريمة ومسؤولية.. جريمة الاخفاء عن عمد ومسؤولية الدولة في المقام الاول عن هذا الملف، وحصرا مسؤولية الحكومات السابقة وزعاماتها السياسية. على ان ضحايا الاختفاء القسري في العراق خلال السنوات ما بعد العام 2003 يتوزعون على ثلاث حالات، الاولى، المختطفون الذين حُرروا بطريق (الفدية) المالية مباشرة او عبر وسطاء، والثانية، اولئك الذين اختطفوا ثم قتلوا على يد مختطفيهم وعثرت عائلاتهم على جثثهم في منعطفات الشوارع او في “ثلاجات“ المستشفيات والطب العدلي، والثالثة، ممن لم يعثر على اثر لهم حتى الان، علما ان الاتفاقية الدولية لحماية الاشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 تنطبق على ضحايا جميع هذه الحالات وتجرم منفذيها ومسانديها والمخططين لها، سوى انها تلزم اللجنة المنبثقة عن الاتفاقية والحكومات والروابط الانسانية بمتابعة، البحث عن مجهولي المصير.
ولعل المشكلة (وقل البشاعة) التي لن يغفر للحكومات المتعاقبة منذ 2003عنها تتمثل في غياب ملفات او سجلات او مرجعية او جهة تحتفظ باسماء ووقائع وظروف الضحايا، حتى حدث ما يشبه الكوميديا الكابوسية السوداء عندما اعلنت امانة بغداد في 17/2/2007 المناقصة رقم (7. د) ودعت المقاولين الى التقدم بطلبات دفن الجثث المجهولة الهوية وفق المواصفات والشروط القانونية التي يمكن الحصول عليها من مقر الدائرة - الشعبة التجارية الكائن قرب ساحة الخلاني لقاء مبلغ (50000) خمسون الف دينارا.. وأن آخر موعد لتقديم العطاءات هو الساعة الثانية عشرة ظهراً من يوم الثلاثاء المصادف 23/1/ 2007.
وإذ توزعت الشبهات والاتهامات عن هذه الجريمة، طوال ست سنوات، على طائفة كبيرة من الجهات والتشكيلات مما عقّد ويعقد امر التحقيق في هذه الظاهرة، على خلفية الاحتقان الطائفي وقيام عصابات طائفية انتقامية إذ دخلت جرائم الاختفاء القسري في سوق البيع والرهانة وتكوّن مافيات مخيفة احترفت الخطف وبيع الضحية لمن يدفع اكثر.
وكانت هذه العصابات وراء نشر الفوضى واضرام النيران وحرق محطات الوقود وتلغيم الجو بالشائعات بهدف اثارة الهلع واشاعة ظروف مواتية لاعمال الاختطاف والتغييب، وقد بلغت اعداد المختطفين والمغيبين يوميا ارقاما مخيفة فيما زادها تعقيدا عجز الحكومات المتتالية وسلطات الامن عن حصر وضبط اسماء المختطفين ووقائع اختطافهم وملاحقة المجرمين.
الجريمة بهذا المعنى، لا تزال حية، وابطالها وضحاياها بيننا، ويخطئ من يعتقد ان الأيام من شأنها ان تطويها، كحوادث من الماضي.
مثل روماني: “لا تسقط التفاحة بعيدا عن شجرتها”