اذا كانت جريمة الحجاج تتمثل في البطش الاعمى “على الهوية“ فلا ينبغي ان يقترب ساستنا من هذا العار، واذا كان طغيانه يفيض من خلال خطاباته النارية المليئة بروح الانتقام والاستهتار والعدوانية فعليهم تهذيب خطاباتهم وتنقيتها من شوائب الكراهية وبخاصة تلك الخطابات التي تلقى في محافلهم وبين اعوانهم.
اما اذا كانت سفالة الحجاج برزت في التمييز بين الناس على اساس ولائهم وتقربهم من السلطة (الحزب. الكتلة. الطائفة..) فلا حاجة لتذكيرهم بمعاني هذه السياسة، فقد زادوا على الحجاج في تكوين البطانات حبتين
فمن هو الحجاج؟
الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق لعبدالملك بن مروان قبل الف واربعمائة عام، وهو، في مصطلح هذه الايام، مسؤول كبير في دولة ذلك الزمان، بلغ من القسوة ما جعله يتسلى بها ويتلذذ في عذاب ضحاياها، وكان يخاطبهم بالقول: “طاعتي عليكم اوجب من طاعة الله”.
كان الحجاج خطيباً، ولغوياً، يحرص على استعارة كلماته من كلام الله، وينحتها من حجر النحو والبلاغة، وتفنن في اختزالها الى مفردة لاثارة هلع الناس الذين يتسلط عليهم، وتخويفهم، واذلالهم، وإخضاعهم، وليس من غير مغزى ان يتلقب الطغاة المعاصرون في الكثير من الاحوال بانهم حجّاج زمانهم، وشاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز ان يخص الحجاج بالقول:
“لو جاءت كل امة بمنافقيها، وجئنا بالحجاج، لفزنا عليهم جميعا” وتذكر الكتب انه لما دخل البصرة في طريقه الى الكوفة، جلس على المنبر بالجامع، وأمر جنده (حماياته) بأخذ الابواب، وإشهار السيوف، وقال للحراس المدججين بالسلاح: اذا رأيتموني أضع العمامة عن رأسي فضعوا سيوفكم فيهم(في المصلين) ثم بدأ خطبته، فالقى عليه الناس الحصى، فخلع العمامة ووضعها على ركبتيه، فجعلت السيوف تبري الرقاب، وسالت الدماء الى ابواب المسجد.
في السايكولوجيا والطب وعلم التاريخ، مؤشرات عما بقي من “اثار“ الحجاج في سلوك وثقافة البشر الذي عاش بينهم، وساسهم، وتحكم في رقابهم، وكذلك في فنون حكم الحكام، وشاءت صفحات التاريخ ان تحدثنا عن اكثر من حجاج واحد انتجه اجدادنا، وهناك حجاجيون محسّنون، يأتون الشنائع بلغة سليمة، ولا تأخذهم الشفقة في بريء، او بعابر سبيل، لكنهم،مقابل ذلك إذلاء امام الاقوياء او امام اصحاب النعمة، وكان الحجاج يخاطب عبدالملك بقوله: “إنك عند الله افضل من الملائكة المقربين والانبياء المرسلين“.
الحجاج كان موظفاً، وكل الذين برأوه من ظنة القسوة والبطش في العراق وألقوها على عاتق عبدالملك الخليفة ارتكبوا واقعة تزوير الحقائق، مثلهم مثل الذين برأوا الخليفة وافترضوا ان الحجاج كان وحده المسؤول عن تلك الخطايا، فان الاستبداد المركزي يخلق استبداداً ربما اكثر بشاعة في الاطراف، لكن سيرة وسلوك وايديولوجية الحجاج تعطينا، إذا ما قرأناها جيداً، خطوطاً من المحاذير الخطيرة في الادارة والسياسة، يمكن تلخيصها بعنوان عريض هو:
ان الحكم الجائر ينتج اتباعا من جنسه.
***
عنترة بن شداد:
لا يحملُ الحقدَ من تعلو بهِ الرتبُ..
ولا ينالُ العلا منْ طبعهُ الغضبُ.