ربما، يبدو للكثير من القراء بان الكتابة عن “الاخوة العربية الكردية” نوع من مضيعة الوقت، او سباحة في مياه غير امينة، او (وهذا أسوأ المظنونات) .
انها كتابة تدخل في باب النيات الخلفية، مدفوعة الاجر، كفانا شر الظن، وعذرنا في الدخول الى هذا الحقل الحساس اننا نخاطب العقل الراجح، والذاكرة المنصفة.
اقول الذاكرة، واستدرك القول، ان المعنيّ من الذاكرة هنا ما يتصل بالمستقبل، وليس نزعة للانكفاء الى الصفحات الوردية من مسيرة الاخاء القومي في البلاد، وأضيف القول ان التذكير، عملية معرفية بنائية، من فصول علم نفس الذاكرة، فضلا عن كونه، كما يقول العالم الفرنسي جون فرنسوا شامبيليون“ محاولة احياء عناصر اليقظة الجمعية الاكثر تحسبا للاخطار“.
والتذكير باخوة العرب والاكراد، الى ذلك، ليس دعوة شكلية لتطييب الخواطر السياسية واحتواء الحساسيات وطي المشكلات تحت سجادة السياسة والمجاملات، ولكنه دعوة لوقفة مسؤولة لتجديد خيار هذه الاخوة وموجباتها، على ضوء التحولات الكبيرة التي شهدها العراق، والتغيير الذي عصف بالفكر العراقي، والارادات، وفي مضامين واشكال عمليات البناء والترشيد، واستبصار الحجارة الكثيرة التي القيت في طريق هذه الاخوة منذ ان صيغت في منطلقات وعقود ومواقف خلال عقود وعقود.
والتذكير، ايضا، ينطلق من اهمية المراجعة لما حصل ويحصل للاخوة العربية الكردية، والمراجعة تنطلق من الاعتراف بوجود اسئلة ملحة وتفصيلية، والاسئلة تبدأ من الزاوية الاكثر حساسية وضرورة:
هل لا يزال العرب والكرد بحاجة الى ان يستانفوا الشراكة في الوطن والمصير ويدخلوا بهما، عن قناعة، رحلة المستقبل والعصر الجديد؟
أم انه حان الوقت للطلاق؟.
الاخوة قيمة وممارسة في الحياة.
في الموقف من الآخر.
في احترام المقامات والحجوم والسمات.
في استيعاب المصالح والمخاوف والهواجس.
وهي قيمة انسانية تخص النوع البشري، وتكشف عن نفسها في العلاقة “الخاصة“بين الاخ واخيه، بالضبط، وهي تُجرَب وتنمو وتتوطد في سلوك وتضحيات وثقافة وليس في انابيب اختبار او كواليس سياسة، وصراعات على قطعة ارض او حفنة تراب.
والاخوة القومية، بصرف النظر عن فروضها وشكل تجلياتها، ارتقاءٌ بنوع الهوية وليس ترقيعا لها، وسموٌ بالانتماء الوطني وليس تشويها له، ورفضٌ للعزلة والانكفاء والانقطاع وليس نكرانا للانتماء، وحين تطرح نفسها في شراكة الوطن الواحد فانها تصبح اكثر الحاحا وحاجة الى الحماية والتنمية مما هي عليه في اية حالة اخرى.
ويمكن القول ان الاخوة العربية الكردية (في العراق) لها هذه الخصوصية، وتهددها-بالمقابل- عثرات مستعارة من السياسة (مصالح. تحالفات.
صراعات على النفوذ. زعامات. تدخلات خارجية..الخ) واخرى من متعلقات الحروب وبناء الحقوق، لكن هذه الاخوة (الشراكة) ترتوي من ينابيع صافية شقت دلالات ومعاني في الوجدان الحي.
تعالوا نستذكر احتفاء اهالي مدينة عانة العربية بالزعيم محمود الحفيد في الثلاثينيات من القرن الماضي، ونعيد الى الذاكرة بناة الدولة العراقية الاوائل وجيشها ومرافقها الادارية وبينهم الكثير من الشخصيات الكردية، ونطالع كيف حيّا ابناء البصرة الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني العائد من المنفى غداة ميلاد الجمهورية عام 1958 وكيف زحفت جماهير بغداد الى فندق سمير اميس لتحتفي به، ونقرأ صفحات من ذكريات مام جلال وهو يتلو شعر الجواهري ويتحدث عن لقاءاته بعبد الناصر وكلماته الكثيرة عن العرب كتاريخ وثقافة وحاضنة، وسنتملى مؤلفات المؤرخ والاديب العربي شاكر خصباك عن التاريخ الكردي، ونستذكر مرويات كاك مسعود بارزاني في سنوات دراسته المبكرة في بغداد وتلك الصداقات الحميمة التي جمعته مع الكثير من اقرانه العرب إذ تواصل مع الكثير منها، ونقرا كيف عمل الشاعر الكردي عبدالله كوران في اذاعة فلسطين في الاربعينات وحمل لها، ومنها، مشاعر الكرد حيال الشعب الفلسطيني، وذكريات الرئيس فؤاد معصوم في جامعة البصرة، وبدرخان السندي في سجن ابو غريب، وعادل مراد في باب الشيخ، وابو اسراء المالكي طالبا في جامعة اربيل، وحسين الشهرستاني استاذا في جامعة السليمانية.
وربما نحتاج ان نذكر ونتذكر كيف احتضن ابناء الديوانية والناصرية والحلة والانبار اخوانهم الكرد الذين هجرهم نظام التهجير وكيف صارت ارضهم كفا حانية لمقابر الكرد الجماعية، وكيف تحولت كردستان لسنوات طويلة الى مضافة للمعارضين العرب الذين نكلت بهم الدكتاتورية البغيضة.
لدينا الكثير مما يكسب هذه الاخوة جدارة خاصة.. ويعطي للتذكير مبررا، بان بلادا متعددة (ومتآخية) القوميات، تملك عناصر قوة اضافية على مستوى الدفاع عن نفسها، ومجالات استثمار الثروات والقوى البشرية وفي مجالات الثقافة، فضلا عن وصفها كحل موضوعي لادارة المصالح والحقوق بعيدا عن الالغاء والتهميش والكراهيات.
وايضا بوصفها بديلا عن طلاق يقوم على ردود افعال تصنع في انواء ملبدة.