من المثقفين النادرين الذين لم يملأ حياتهم شيء كما امتلأت بالمعرفة والجمال هو التشكيلي الكبير شاكر حسن آل سعيد.
سأكون صريحاً وأقول إني وقبل أن أتعرف على هذا الفنان بشكل مباشر كنت أتوقع أن جانباً من زيفٍ ما يعتري تلك الحياة ويبدو أنه جانب غير مرئي، جانب ظلَّ مدثراً ربما بذكاء وربما بشيء من ألعاب الفن والثقافة. لم أكره شاكر حسن آل سعيد بفعل ذلك الحدس غير المدعم بأية معلومة، ما الداعي للكراهية؟
ولكني لم أحبه. تعاطفي مع بعض لوحاته ومع معارضه التي أحرص على زيارتها لم يكن داعياً للتخفيف من تلك المشاعر الباردة التي لم أكن أعرف دافعها وحتى لم أفكر به.
في كل حال بقيت تلك انطباعات شخصية لا صلة لها بالثقافة ولا بالعمل في الميدان الثقافي.
دائماً أفصل بين الحالين، وكان مصداق هذا الفصل قد جرى التعبير عنه عملياً في مطلع عام 1992 مع بداية تسلمي تحرير الصفحة الثقافية لجريدة الجمهورية.
قبل عملي في ثقافية (الجمهورية) كان شاكر حسن آل سعيد واحداً من أبرز كتّابها حين كان يحرر ثقافيتها الكاتب ماجد السامرائي وهو من أكفأ المحررين الثقافيين في العراق.
وبعد بدئي العمل فيها، وحين قررت الاتصال بعدد من هؤلاء الكتّاب، كان شاكر حسن آل سعيد في الطليعة ممن اتصلت بهم، بالإضافة إلى جبرا ابراهيم جبرا وعبدالرحمن طهمازي وآخرين بضمنهم ماجد السامرائي نفسه.
أذكر الآن أن جبرا اتصل بي هاتفيا معتذراً بعدما طلب أجراً معينا لقاء مواصلة الكتابة للجريدة، كان يستحق فعلاً مثل هذا المبلغ الذي طلبه وحتى أكثر منه لكنه كان أكبر مما مسموح به في ظروف الحصار وهو أكبر من قدرتي على صرفه وحتى من قدرة رئيس التحرير على الموافقة عليه..
وفي هذا اليوم الذي أتصل به جبرا وردني مقال ولكن من شاكر حسن آل سعيد، وحتى إذا ما نشرت المقال بعد يومين وبالتقدير الذي يستحقه حضر الفنان الكبير إلى مبنى الجريدة، وزارني في القسم الثقافي، وكان هذا اللقاء مناسبة كريمة للتعارف وبداية لتصحيح تصوّرٍ ولتقويم انطباعٍ قلت قبل قليل عنه أني لم أكن أدري كيف تولد عندي عنه ازاء الرجل.
إنه واحد من أشد الناس تواضعاً.
في حياته من الجدية ومن الإخلاص لعمله وفنه ومعرفته ما يغنيه عن أي سلوك متعالٍ.
بقينا نلتقي لعشر سنوات ولا أذكر خلالها أننا انشغلنا بشأن آخر غير شأن الفن والمعرفة والجمال.
يتذكر حينها الزملاءُ محررو ثقافية (الجمهورية)، وبالأخص محرر التشكيل الصديق محمد الهجول، أنني وبعد أسابيع قليلة على تلك الزيارة الأولى اتفقت مع آل سعيد على أن نخصص ساعةً من وقت كل زيارة يقوم بها إلى القسم الثقافي في الجريدة لنواصل أثناءَها حواراً فكريّاً في الحياة والمعرفة والفن.
كنت أترك العمل لزملائي لأستغرق مع الفنان في حوارنا. كانت الساعةُ قابلةً للزيادة والنقصان. طبيعة التحاور نفسه وطبيعة مشكلاته وظروفه هي ما كان يقرر ويحدد الوقت.
لم نكن نريد لذلك الحوار، وقد بدأناه، أن يكون فرضاً وواجباً، إنه حوار إنساني بين رسام وشاعر وجدا مشتركات ومفترقات وما يمكن التحاور فيه فأرادا التأمل في ذلك بحرية.
لا يتوفر المرء دائماً على إجابات.
أشك في جدوى وحقيقة أي حوار لا يتوقف، لا يمرّ بلحظات صمت وانقطاع وحيرة، هذه اللحظات هي جزء من زمن الحوار وهي بالتالي جزء منه ولا بد من احترامها. احترام جدية الحوار الإنساني يوجب أن ننطلق من حقيقة أننا لا يمكن أن نكون دائما قادرين على التوفر على اجابات مقنعة.
مرات كان هو مَن يطلب التوقف وتأجيل مواصلة الحوار للزيارة المقبلة وكنتُ مرات أنا مَن يطلب ذلك. لكني الآن لا أعرف مَن منّا طلب مرّةً التوقفَ وذلك بعد أول جملةٍ كتبناها في ذلك اليوم من الحوار..
لم يكن الحوار صوتياً شفاهياً ومسجلاً كان حواراً صامتاً على ورق. كان كلانا يؤمن أن المشافهة أشد تلقائية لكن الكتابة أكثر حرية.
استمرت حواراتُنا لأشهر، صارت الأوراق تنيفُ على المئة وخمسين ورقة فولسكاب، وكانت جميعها من ورق الجريدة الأسمر، بحيث أذكر أن جانباً من الحوار انشغل بهذا الورق نفسه.
كان الورق بلونه الشاحب وبملمسه الخشن نسبياً وبطبيعته القابلة للتلف السريع يقدم مناسبة للحوار في مفهوم (الأثر) الذي كان يشغل جانباً من تجربة الفنان في تلك السنوات.
بعض الحوار لم يكن كلاماً من الفنان، كان تخطيطات (يرتجلها) على ورق الحوار، إنها جزء من إجابات وأفكار وتساؤلات فنانٍ كان الرسم بالنسبة إليه شكلاً من أشكالِ الحدس والمعرفة والاستبطان.
كنا نتقدم في الحوار الذي لم يكن يبدو عليه أنه يريد أن ينتهي، بينما وبالتوازي من هذا كان يتضح لي مع تتالي الأسابيع أن حياة شاكر حسن آل سعيد بدأت تغذ السير إنما باتجاه آخر، اتجاه يريد البدء بنهاية غامضة لفنان ومفكر متصوف.
آخر مرة رأيت فيها الفنان الكبير كانت في معرضه الاستعادي الشامل الذي أسهم بإعداده والعمل عليه باجتهاد ومثابرة الصديق الفنان محمد زناد في قاعته الجميلة (أثر) في الوزيرية.
لقد كان هذا هو المعرض الأخير لشاكر حسن آل سعيد.
كنا عصرأحد أيام المعرض المتأخرة هناك، كان الجو أقرب إلى قداس وداع أخير، ففي صالات قاعة أثر التي احتضنت اللوحات والتخطيطات التي غطت مراحل وتجارب أساسية مختلفة من عمل الفنان كان أربعة أشخاص يخطون بين الفن متطلعين صامتين، كان الجميع يتكتم على حزن ما، كنا أربعة فقط:
شاكر حسن آل سعيد ومحمد زناد وسهيل سامي نادر وأنا..
احترمنا نحن الثلاثة خيار رابعنا آل سعيد الإقامةَ أخيراً في اقنوم الصمت، صمت مطبق..
إنها المرة الأولى التي يظهر فيها آل سعيد بعد أسابيع من التواري في ذلك الأقنوم.
كان يتمشى معنا، مثل أي زائر، وكما لو كان يعيد اكتشاف اللوحات ويحاول التعرف عليها.
حين ودعتُه بنظرة صامتة وقبل أن أبلغ الباب سمعت آل سعيد يهمس لي: ـ الحوار.
ومن دون أن ينتظر جواباً مضى في اللوحات مواصلاً صمته.. وواقعاً لا أملك حتى الآن جواباً عن (الحوار).
حين غادرت السجن كان أول شيء أبحث عنه في مجرات مكتبي في جريدة الجمهورية هو (أوراق الحوار) حيث تركتها هناك.
كنت أتوقع أن يعود الفنان يوماً لنواصل ما انقطع.
لقد اختفت الأوراق نهائياً مع اعتقالي وباختفائها ضاع الحوار قبل أن يختفي شاكر حسن آل سعيد ذاته عن عالمنا الذي أضاع كل شيء.