كثيراً ما بقيت أحرص على أن يبقى الحس الانساني الذي يوجه حياتي وشعري بعيداً عن التعبير السياسي المباشر في الشعر.
لم أكتب شيئاً بعيداً عن هذا الحس، حتى في أكثر نصوصي ذاتيةً وتجريداً، لكن كان لا يجري فهم هذا الشعور الإنساني في الخارج من منظومة التصنيف السياسي.
نحن في ثقافة عربية لا تقرأ قبل أن تفكّر بالتصنيف، تصنيف الكاتب في ضوء المكتوب، وأحيانا استباق قراءة المكتوب بتصنيفه في ضوء المعروف عن موقف الكاتب.
واجهتُ هذا بقراءة (اليد تكتشف) مثلاً، وهو ديواني المنشور الأول الأشد تجريداً وانشغالا بالنأي عمّا هو يومي مباشر يسمح بأن تُشمّ منه رائحةُ موقف سياسي.
لم أتعمد هذا الانشغال، لكن (اليد تكتشف) عانى حتى قبل توزيعه مشاكل شديدة الحساسية، وقد حصلت في ضوء تصنيفي أنا، وهو ما يعرفه بعض أصدقائي المقربين، وذلك ما كتبت عنه بالتفصيل محتفظا به لنشره في مناسبة أرجو أن تتاح لي.
لم يكن الديوان عصياً على أن تُفـهَم منـه تلك المشاعـر الإنسانية، لكـنها مشاعر كانت تلمّح أكثر مما تصرّح به.
لكن في آخر ديوان منشور لي وهو (شريط صامت) كانت تلك المشاعـر أكبر من أن يجري تقييدها بتليمحات، إنه ديوان (نصـوص عـن السيـارات والرصاص والـدم)، يومياتنا تحت تهديد المـوت والـقتل المتـربص.
كانت الموضوعات تقدم نفسها عاريةً بلا أي تزويق بلاغي، ليس سوى بلاغـة الموت وكرامـة الحياة الانسانيـة في مواجهته، لكنها نصوص ظلت تنـأى عـن التصنيف السياسي مكتفيةً بشرف الموقف الانسانـي، وفوجئت أن يرى ناقد عربي صديق ذلك على أنـه مسعى من الديوان للظفر بـ (نبل ايديولوجـي ووجاهـة سياسية).
لكن كان هذا قد قيل قبل أن يتمدد العنف والإرهاب إلى مساحات عربيـة غير العراق ولتكـون الكتابة الشعريـة المواجهة للموت كتابـةً تهتـدي بشكل مباشر وغير مباشر بـ (شريط صامت) وهي في طريقها لتكون تقليداً مهيمنا في أكثر من بلد عربي ابتلي بالعنف والفوضى.
في الحقيقة لا يستطيع الشعر بظروف الخطر، كلما كان الشاعر إنساناً بكلّ ماتعنيه هذه الصفة من حسٍّ ومسؤولية، أن يضع حاجزاً بينه وبين الانفعال.
إما النظر إلى قيمة وصيغ الفن في الشعر فهي مجال قابل للاختلاف.. قبل سنتين كنت أقرأ نصوصا من الديوان في كلية التربية للبنات حين نـهضت سيدة تنشج ببكـاءٍ لـم تقوَ علـى كتمه وهي تسألني:
ـ هل كنت تعرف بالطريقة التي أختطف وقتل بها زوجي.
أنت تتحدث عن كل تفصـيل كما لـو كنتَ رأيـتَ كـل شـيء.
إنها رؤية الشعر وبصيرة الحس الإنساني وعزاء الكلمات يا سيدتي.