في قصيدة تشارلز سيميك (أميركي من أصل صربي) يريد الشاعر أن يكتب عن الموت في كتب عن الحياة.
الحياة في هذه القصيدة التي ترجمها إلى العربية الشاعر عبود الجابري هي الصورة (الحيّة) للموت هي الكواليس التي يجري وراءها التحضير من أجل مساعدةِ الموت على أداء وظيفته.
هذه هي وسيلة القصيدة لبلوغ إجابة ممكنة عن التساؤل الذي تنطلق منه بسطرها الأول: كيف يعمل الموت..؟
الإجابة المباشرة التي تقدمها القصيدة في سطرها الثاني (لا أحد يعرف) لاتعدو كونها مواربة عابرة بين مواربات أخرى أشد حذقا ظل سيميك مفتونا بها عبر الكثير من نصوصه.
لايبدو الموت في (عيون مثبتة بدبابيس) خاتمة للحياة، لاتنشغل القصيدة بهذا التراتب؛ الحياة هي ليست أكثر من مقدمات متباينة في أشكالها وأسبابها التي تمهد بكل منها، بطريقتها الخاصة، من أجل البداية المتوقعة: الموت.
سيميك الساخر الموارب المتهكم يجعل من الحياة اليومية للبشر عملا جميلا متواصلا إنما في خدمة الموت المنتظر الذي (لا أحد يعلم في أي يوم طويلٍ سيحط رحاله)؛ ماذا تفعل السيدة الوحيدة في المنزل سوى أن تكوي غسيل الموت؟ وما الذي تصنعه البنات الجميلات غير إعداد وجبة العشاء لموت يبدو في هذه القصيدة عائدا من عمل يومي أو نزهة يومية، لا فرق؟ في ما ليس أمام الآخرين سوى مواصلة رتابة أيامهم على طاولة من ورق أو كؤوس جعة، إنه الموت منتظرا الموت.
الموت ليس وافدا قادما للحياة؛ إنه هنا، في هذا النص، يشكل والحياة أقنوما واحدا وذلك بشيء من التحوير للمفهوم المسيحي المكرس.
ليس من مسافة فاصلة بين الحياة والموت، ليس من ثنائية، ليس من تراتب.
الموت واحد من أهم اهتمامات الشعر على مدار الزمن، بل إنه ظل دائما يقف كدافع أساس في الكثير من الفعاليات الإنسانية، فكرا وتأملا وكتابة وسلوكا. لقد خلق الموت موضوعاته في الأساطير والأدب والفن، فيما تكرست عنه صور نمطية ونظام تفكير خاص في الشعر بمختلف الثقافات.
لكن تظل أفضل نصوص الشعر المعنية بالموت هي تلك التي تتفادى طغيان التفكير على ثيماتها. التفكير هو نتائج تستحصل من العمل الشعري وليس وسيلته لخلق قصيدة.
وسيلة هذه القصيدة لتحقيق شعريتها عن الموت هي في تغييب الموت.
الموت شبح يتوارى، إنما هو مبثوث في تفاصيل الحياة نفسها. يخفق الموت في قصيدة سيميك حتى في العثور على ضحيته لكن الضحية هو من يتقدم نحو الموت، هو من يستسلم مكرها للموت.
حسب واقعة القصيدة ليس من تقدم ولا استسلام. يخفق الموت في الاستدلال على الضحية لكن الفرد الضحية، وفي عزلته ووحدته، هو من يتحول إلى الموت وكما لو كان يقع في هوة النوم. إنها لحظة خذلان تلك التي تجسر الصلة بين الحياة والموت، حتى ليس ثمة من جسر بين الاثنين: الحياة والموت؛ إنهما أقنوم واحد وما الأشياء والبشر (مواد الحياة والموت) إلا وسائل لإدامة الاتصال في عالمه وواحد فيما نستمر نحن الأحياء ننظر إليه فنراه منشطرا إلى اثنين؛ حياة وموت.
الشعر في واحد من وجوهه هو ترجمة. السفر والتنقل هو الآخر شكل ما من أشكال الترجمة، بينما الموت هو ترجمة أخرى بوصفه انتقالا بين حالين، ثم يأتي الشعر ليقدم خلاصة ترجمية أخرى ومتميزة من خلاصات الموت والحياة.
إنها الخلاصة التي يكون معها الموت مجرد تفصيل من تفاصيل الحياة حينما نظل، نحن الأحياء، متمسكين بمركزية الحياة في تلك الثنائية.
إذا أردنا معرفة الموت فلننظر إلى الحياة.