نجحت الحياة في هولندا بمواصلة خفض أعداد السجناء فيها إلى الحد الذي باتت تنتفي فيه الحاجة إلى بعض بنايات السجون في هذا البلد الذي يقدم مثالاً أوربياً متقدما للحياة الإنسانية وعيشها بكرامة وأمان وعدل.
آخر التقارير الرسمية تؤكد أن هناك 57 سجيناً فقط في هولندا من أصل كل 100 ألف شخص، وهي النسبة الأدنى في أوربا، بحيث بات الكثير من سجونها فارغاً.
في كتابي (واقف في الظلام) تحدثت عن بناية سجن قديم في مدينة خرونيغن شمالي هولندا، جرى تحويلها إلى مكان لعرض أعمال تجريبية في المسرح وفنون أخرى.
لقد انتفت الحاجة إليها كسجن بعدما باتت لا تنسجم مع معايير السجن الحديث وبعدما انتفت الحاجة أساساً إلى مثل ذاك السجن.
فبالمصادفة كنت قبل سنوات قد زرت وزوجتي المبنى، وهو سجن، على قدمه، فإنه أفضل حالاً من كثير من سجون بلدان أخرى تقوم فيها فكرة السجن على الكراهية والانتقام من السجين.
بعد نشر كتابي أتيحت لي زيارة أخرى لخرونيغن.. وفي واحد من النهارات كان عليَّ أن أمرّ بداود، وهو شاب ناجح، قريب لي، ويعمل في البوليس الهولندي.
دفعني الفضول لأسأله، وقد فرغ من عمله، ما إذا كان في مكان عمله (موقف) أو سجن.. وحين أجابني بنعم، اندفع فضولي أكثر فعبّرت عن رغبة برؤية سجن (حي) في بلد أوربي.
استأذن من رئيسه فحصلت الزيارة.
واقعاً انقبضت نفسي كثيراً في الطريق إلى رؤية (السجن)، استسخفت طلبي ومحاولتي رؤية بشر محبوسين.. إنه مشهد يحيل إلى حالة غير إنسانية حتماً، لقد تذكرت حديقة الحيوانات، وتطلعنا من أمام القضبان إلى الكائنات القابعة خلفها، ونظر هذه الكائنات من موقعها إلينا بأعين تبوح بألف استفهام، ولكن هنا بشر، وهذا ما يجعل المشكلة مضاعفة.
قبل بلوغي السجن اجتزت ممراً واسعاً كانت على جانبيه غرف واسعة فيها أسرّة مرتبة وكراسٍ وطاولات وبعض أدوات، إنها حتماً غرف حرس السجن، وحتماً هم الآن في واجباتهم أو بيوتهم، فلا أحد في الغرف كلها.
انتهى الممر، وكان قصيراً، فطلب مني داود العودة والمغادرة.
سألته:” والسجن“؟
فردّ عليّ مبتسما:هذا هو السجن! ”هذه هي غرف السجناء إذاً.
لا يوجد سجناء..
مما دعاني للسؤال عما إذا كان هذا (السجن) فارغاً بالمصادفة وما إذا كان يمتلئ بمناسبات وأوقات أخرى.
من النادر أن يمتلئ، ولكن ليس بسجناء.
أحياناً، وفي الليالي الأشد برداً، يمضي البوليس إلى الأماكن المحتملة لتواجد المدمنين وعديمي السكن من (الهومليس)؛ تشتد الخشية على حياة هؤلاء، فيؤتى بهم بلطفٍ ويجري ايواؤهم حتى النهار واطعامهم ثم الاعتذار إليهم وإعادتهم إلى حيث جيء بهم.
اكتفيت بالصمت أمام بعض مزايا شعوب اطمأنت تماماً على أمنها وسلامها فباتت تحرص على حماية حقوق حتى الخارجين عليها وعلى سلامة حياة حتى المستهترين بحياتهم.