بعد رحلة طويلة لم تبدُ مملّة بلغنا مطار واشنطن على متن طائرة للخطوط الجوية التركية، كان معي عدد من الزميلات والزملاء الصحفيين من بغداد، وكان هذا في ربيع عام 2015.
ترافقني على الطائرة حقيبة يدوية وأخرى حقيبة لابتوب، أنزلتهما ثم وضعتهما في جهاز الفحص بعدما أخرجت اللابتوب من حقيبته، كما تقتضي تعليمات المطارات، ووضعته في حاوية صغيرة عند جهاز الفحص، وما إن انتهيت من اجراءات مروري عبر جهاز سونار ومن تفتيشي حتى انشغلت بتفقد الحقيبة وما تركته فيها من حاجيات كالجواز والساعة اليدوية ومحفظة النقود وبطاقة السفر، ثم انهمكت بارتداء الحزام والحذاء وترتيب ملابسي قبل أن اندفع مع زملائي الآخرين باتجاه طوابير تدقيق وتأشير الجوازات.
لا أسخف من خلع الأحزمة والأحذية، لكن كثيراً من السخافات في الحياة العامة لابد من تحملها وحتى تسخيفها. انشغلت بهذه السخافات، فلم انتبه إلى أني نسيت اللابتوب في جهاز الفحص وغادرته بالحقيبتين؛ اليدوية بما فيها، وحقيبة اللابتوب فارغةً.
منذ سنوات لم أعد أسافر من دون لابتوب، طبيعة عملي في الكتابة تقتضي هذه الرفقة التي تقلصت معها مساحة الاعتماد على الورقة والقلم حتى تلاشت الحاجة إليهما تماماً في أي شأن له صلة بالكتابة، طبيعة عملي الوظيفي الصحفي هي أيضاً تقتضي مني هذه الرفقة نفسها. إنها ملازمة باتت لابدّ منها حيثما كنت.
من الممكن للمرء أن يضيّع أثمن قلم معه، إنها خسارة قابلة للتعويض، بينما خسارة دفتر زهيد الثمن هي ما قد تكون مما لا يمكن تعويضه، قيمة الدفتر التي تسمو على قيمة القلم بمثل هذه المقارنة هي بما يحمله وما يحفظه الدفتر من المكتوب فيه، وهكذا هي المشكلة مع فقدان لابتوب.
ضياع اللابتوب لا يعني خسران متعة السفر والتنكيد على أيامه فقط، فبرغم تعاسة هذه النتيجة إلا أنه كان لهذا الفقدان أن يضيّع معه أيضاً ما لا يمكن تعويضه؛ مخطوطات لأكثر من كتاب، وملفات تحفظ الكثير من النصوص والمقالات غير المكتملة، ومعها عشرات الملفات الأخرى، من بينها ملفات صور شخصية وعائلية كثيرة. ليس من أسرار في كل هذه الملفات لكنها ملكية شخصية، فكرية ومعنوية، لها قيمتها بالنسبة لي.
أحتفظ في العادة، وعلى أكثر من (هارد دسك) صغير، بمعظم الملفات الضرورية، وهذه وسيلة قد تخفّف صدمة الفقدان أو التلف إذا ما تعرض اللابتوب لأي ضرر متوقع دائماً برغم عدم حصوله حتى الآن، لكن المشكلة أن ملفات اللابتوب هي عرضة دائماً للإضافات والتغييرات والتعديلات والحذوفات، فكلما سنحت لي فرصة فإن المزاج كان يذهب بي حينها إلى واحد من الملفات وتجري المراجعة، والمراجعة غالباً ما تنتهي بتغييرات كثيرة.
يحصل هذا مع أيّ كتاب طالما كان ما يزال مخطوطاً ولم يصدر مطبوعاً.
لا أعتقد أن مراجعةً، ولو عابرة، لأي نص، شعري أو غير شعري، كانت تمرّ من دون تدخلات فيه.. النصوص عرضة لكتابةٍ تظل مستمرة كلما تأخر نشرها، ولا بأس في هذا حتى بعد نشرها.
كانت تلك التعديلات تحصل على النسخ المحفوظة في اللابتوب، فهو الأقرب دائماً، فيظل من الصعب نقل التغييرات إلى نسخ الهارد دسك، وفي معظم الأحيان أظل متأخراً لأسابيع لحينما يتوفر ظرف يسمح بتحديث الملفات المحفوظة فيه، وقد أنسى فلا أحدّث، إنها ملفات احتياط في كل حال.
كان في كلّ طابور في القاعة الكبيرة للتيرمنال يقف العشرات من مختلف البشر.
قبل بلوغ الطابور المخصص لتأشير جوازاتنا صعقت فجأةً حين تنبهت إلى خفة حقيبة اللابتوب على كتفي، توقفت وفتحت الحقيبة ليتأكد لي نسياني اللابتوب في جهاز الفحص.. لقد حصل هذا الانتباه بعد ما لا يقل عن خمس دقائق، وهو وقت كافٍ لليأس من إمكانية العثور عليه في ذلك المكان المكتظ بمئات المسافرين الذين يرومون الانتهاء سريعاً من أول إجراءات التفتيش في مطار أمريكي معروف، كما مطارات الولايات المتحدة الأخرى، بدقته وتشدده في تلك الإجراءات.
تابعونا في العدد القادم..