مهما حاول كاتب أو شاعر النأي بنفسه عن التعبير السياسي فإنه في ظروف استثنائية كظروف المحن الكبرى، سواء في بلده أو في العالم، يجد نفسه محتاجاً أو (مضطراً) إلى مثل ذلك التعبير. في الظروف الطبيعية تنحصر اهتمامات كثير من هؤلاء الكتّاب عادةً بموضوعات وانشغالات أدبية وشعرية لا صلة لها بالسياسية، وما أكثر الموضوعات الخاصة التي لا تمسّ السياسة ولا تنفعل بها والتي لا أشدّ منها إلحاحاً على اهتمامات الكتّاب. ليس بالضرورة، إنما مما هو معقول أن لا ينشغل جميع الكتاب والشعراء بالسياسة. يشير ستيفان زفايج بحذر شديد إلى أن ريلكه لم يعبأ، شعرياً وثقافياً، بالحرب التي استعرت في العالم في أثناء حياته. زفايج كان يتحدث عن انطباعات وأقاويل كثيرين كانوا يريدون النيل من ريلكه، لكن زفايج بما جُبل عليه من حسٍّ إنساني مرهف يعود ليجد في البوح المأساوي الذي طبع شعر ريلكه صدى عميقاً للحرب ولواعج الإنسان فيها، ألا يكفي هذا؟ ظروف المحن العامة ذات الصلة بالسياسة هي ظروف محنة خاصة بالنسبة لمثل هؤلاء الأدباء؛ إنها محنة (وجوب) الانشغال بما لم يكن ولم يرد أن ينشغل به يوماً.
الكاتب ليس ماكنةً يمكن تحويرها لتعديل نوع انتاجها ونمطه؛ إنه نوع خاص من البشر الذين لا يقتربون من الكتابة ولا ينجحون فيها ما لم تكن كتاباتهم جزءاً حياً وعضوياً من مشاغلهم الروحية والوجدانية والثقافية، وهذه مشاغل تفرض تقنياتها وموضوعاتها وأساليبها المفضلة لدى الكاتب أي كاتب. أسوأ ما يمكن أن يجد الكاتب نفسه فيه هو أن يكتب (مضطراً) أو مكرهاً، وهذا الاضطرار لا يحصل بالضرورة كتلبية فقط لمتطلبات سلطة أو قوة، أحيانا تكون (مجاملة) الرأي العام وهياجاته تعبيراً هو الآخر سيئ عن مثل ذلك الاضطرار.
نزار قباني، مثلاً، وجد نفسه مضطرا لتكريس جهد متأخر في عمره الشعري للسياسة وذلك تحت ضغط الحملة الشعواء التي أثيرت ضده وضد ما اعتاد عليه من شعرٍ عاطفي ومخملي وذلك بعد حرب حزيران 1967. إنها حملة اُريد بها البحث عن شماعات لتُعلَّق عليها نكبة العرب حينها، فكان نزار والمغنية النادرة أم كلثوم من بين من صادفتهم الحملة ورمت على عواتقهم النكبة. بهذا لم يكن شعر نزار السياسي يحمل أية قيمة تضاهي ما كان قد حققه من قيم في شعره العاطفي. إنه شعر مكتوب تحت وطأة الاضطرار أو المجاملة مهما اختلفت درجة وطبيعة القسر الذي يدفع إلى القبول بالاضطرار والمجاملة الشعريين. كان نزار بشعره العاطفي مسهماً حيويا بتحديث وتمدين حياة ويوميات ملايين الشبان العرب بينما عاد بشعره السياسي إلى نمط من الخطابيات والشعارات، إنه نمط عاد بتلك الحياة القهقرى.
ريلكه لم يلتفت إلى أية ضغوط من قبيل ما كان يقال ضده، لكنه كتب بملء حريته وقرارة نفسه عما وجده من صيغة مثلى للتعبير عن آلامه وتمزقاته في تلك السنوات الساخنة بمرارات الحرب وفظاعات ما فعلته السياسة على الأرض وبين الناس .
بعد نزار بعقود نجد الآن في شعرنا الكثير مما بات يجامل الرأي العام وما ينشده الجمهور من كتابة تتساهل بقيم الشعر وجمالياته وحتى تنحطّ بالشعر إلى ما هو أدنى مرتبة من الشعار السياسي وخطابياته الرديئة هي أساساً.
لا ينبغي للشعر والكتابة الأدبية أن يضارعا السياسة في انحطاطها.
الشعراء أو الكتّاب يمكن في ظروف المحن العامة أن يأتي الواحد منهم باختياره وحريته إلى التعبير السياسي بالشعر وبسواه، وسيكون نجاحه ورزانته في الحفاظ على الطبيعة الأدبية والشعرية لكتاباته هما المعيار الأكيد لقيمة ما يفعله بالسياسة من خلال الكتابة.
دائماً السياسة تتطلب قرابين لها ولأخطائها وحتى لصوابها. لا تكتفي شراهتها بما تحظى به من قرابين بشرية ومادية وحضارية، فعلى مدار التاريخ كان الشعر والكتابة هدفاً للإذلال وسوء الاستخدام السياسيين، وهذا هو بعض استهتار السياسة بخزائن وتاريخ روح الأمم، مسؤولية الكتّاب هي في أمانتهم على سلام وجمال الخزائن والتاريخ.
هذه مسؤوليات مشتركة بين المجتمع والكتّاب، لا يمكن للكاتب وحده تقدير مدى خطورتها، لكن الكاتب يظل أولاً وأخيراً هو المسؤول عن نوع طبيعته في الكتابة وهو حارس رصانتها وجمالها وموقعها في تاريخ الكتابة.