كان من الممكن تفهّم دواعي الاندفاع باتجاه الاستفتاء من أجل انفصال إقليم كرستان عن الوطن الأم، لكن من غير الممكن الآن تفهّم مبررات المماطلة من أجل بلوغ حل سريع للوضع المأزوم الذي بات عليه الإقليم بشكل خاص والعراق بشكل عام في إثر تداعيات الاستفتاء.
لم يكن خافياً على أي عاقل أن الاستفتاء لن يؤدي إلى أية نتيجة أخرى تتجاوز النتيجة الوحيدة المتوقعة منه وهي انفصام نهائي لعرى الثقة والتفاهم ما بين سلطات الإقليم (المندفعة منها بشكل خاص نحو الاستفتاء) وما بين الحكومة والبرلمان الاتحاديين.
هذا التأزم في الصلة من الممكن توقع إسلوب إدارته من قبل الطرفين لكن قد يصعب توقع النتائج التي سينتهي إليها وآثارها على الحياة في مدن الإقليم.
التأخير في تسوية الصلة ما بين الإقليم والمركز الاتحادي، والمماطلة والسعي من أجل الخروج من مأزق الاستفتاء بنتائج (إيجابية) عرضية، سيكون سبباً في تعميق الأزمات واتساع الشرخ.
ويجب توقع أن هذا الشرخ كلما اتسع فإنه لا يردم إلا بالمزيد من الخسائر التي سيدفعها مّن تسبب بالاستفتاء ومن مضى فيه بلا دراية ولا هدايــة سـوى الرغبـة العمياء بضرب القمار، فإما لهذا وإما لذا) بتعبير أبي الطيب المتنبي.
مثل هذا اللعب لا يحصل في السياسة إلا في ذروة لحظات اليأس.
وواقعاً لم تكن هناك طيلة السنوات ما بعد 2003 أية مناسبة تدعو لمثل هذا اليأس ما بين الإقليم ودولته العراقية.
بل ليس من (باب الحسد) القول إن الإقليم هو الطرف الأكثر إفادة من بين أطراف العراق الأخرى من الدولة وإمكاناتها ومن تركيب الحياة السياسية ما بعد ذلك العام.
في كل حال لا بأس في أزمة سياسية ما بين مؤسسات الدولة الاتحادية والمؤسسات التابعة لها في الإقليم.
تاريخ العملية السياسية هو متوالية مستمرة من الأزمات ما بين أطرافها، برغم أن الأزمة الأخيرة مع الإقليم أخذت طابعا نوعياً مختلفا تماماً عما سبقها من أزمات.
البأس هو في الاندفاع أكثر من قبل سلطات الإقليم نحو مزيد من التأزيم، وبما يفاقم المشكلات داخل الإقليم ويزيد حدة مشكلات الإقليم مع الدولة.
عمليا تريد سلطات الإقليم الخروج من الخانق ولكنها تريده خروجاً إن لم يكن مصحوباً بـ (محصول) إيجابي فبالقليل يكون خروجاً بلا (خسائر).
وواقعاً فإن من يقرر نوع وحجم خسائر سلطات الإقليم (السلطات وليس الإقليم) هو أكثر وأعقد من أن يجري حصره بمجرد طرف الحكومة الاتحادية.
وفي هذا التنازع الخانق الذي وضعت السلطات نفسها فيه سيكون لزاما عليها أن لا تخسر تماماً ونهائياً الصلة بالحكومة الاتحادية وهي تركن إلى عقلية التعنت السياسي غير المفهوم.
في السياسية يجب القبول بخسائر لا بد منها لتفادي خسائر أكبر منها ما كانت لتكون إذا ما جرى الركون إلى العقل.
وما أفدح خسائر تغييب الحكمة!