بالتأكيد ليس جميع الناس مهتمّين بالسياسة السياسة تتحكم بمصائر الشعوب والبلدان وحتى الكوكب الأرضي، إنها تؤثر في كل شيء وتفصيلٍ من حياتنا، مع هذا هناك من لا تشغله السياسة بشيء. عدم الانشغال هذا لا يعني قبولاً بمظالم السياسة ومساوئها حين يؤدي عمل السياسيين إلى الظلم والخطأ.
أشكال وصيغ التعبير عن التذمر من مساوئ السياسة كثيرة، ومعظمها لا ينطوي على هدف سياسي بقدر ما يعبر عن حاجة إلى استعادة حقوق مستلبة.
إن ينشغل امرؤ ما بمضار السياسة على حياته لا يعني أنه سياسي، وعدم انشغاله بها لا يؤكد تماماً غياب موقف لهذا المرء، ولو داخلي، مما يحصل في السياسة بخيرها وشرها.
المرء المنصرفُ تماماً عن السياسة، بفعل طبيعته الشخصية وليس بتأثير من سواها، هو صورة واضحة عن نقاء الفرد. الإنسان كائن محكوم بحياته الشخصية وبعالمه الداخلي وبكل ما يمتّ بصلة حية بهذا العالم. والسياسة هي من أكثر تدابير الإنسانية فشلاً في إقامة مثل هذه الصلة الحيّة بالسريرة الإنسانية كما هي عليه بنقائها. هكذا تُزاح السياسة جانباً من اهتمامات بعض البشر المنسجمين مع نقاء عوالمهم الخاصة.
لكن في المجتمعات التي تمر بظروف استثنائية وخطيرة بفعل تأثيرات السياسة يكاد المواطنون يبدون بمعظمهم معبّرين عن آراء في السياسة ومنشغلين بها.
في مثل هذه المجتمعات تحضر السياسة في كل مكان للتجمعات ويرتفع دخانها حيثما يلتقي الناس.
الحديث عن الطقس أو عن أزمة السير يكون مفتاحاً تقليدياً للتحادث في مكان عام بين ناس غير متعارفين على بعضهم، لكنه حديث لا يلبث حتى يتحول إلى مناسبة مباشرة للتنفيس عن آراء وتحليلات واعتراضات في السياسة وضدّ سياسيين ومع سياسيين آخرين.
كلُّ شيء هو مناسبة للسياسة وللكلام فيها وذلك حينما تخفق السياسة في أن تجعل الناس بغنى عن الخوض فيها والانشغال بصراعاتها وتقلباتها.
انصراف الناس واستغناؤهم عن لغو السياسة لا يأتي بالقمع وبإسكاتهم وإرهابهم؛ في المآل الأخير يدفع القمع إلى أن تكون حياة وعمل الأحاديث والاعتراضات والنقمة في الأنفاق المعتمة التي لا تبلغها الرقابة السياسية، وتظل الحاجة إلى التعبير السياسي تعتمل في دواخل النفس البشرية وتتراكم وتتضخم فيها، وهذا حال من أسوأ ما تكون عليه السياسة ومن أخطر ما تؤدي إليه من نتائج.
الحياة في مجتمعات الحريات الديمقراطية والرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي تقدّم أمثلة حية عن استغناء الناس عن السياسة وتركها للمنشغلين فيها.
ليست النسب المتدنية، في الغالب، للإقبال على صناديق الانتخاب وحدها التي تقدم مثالا عن هذا الاستغناء الجماهيري عن السياسة وإنما تراجع الحديث العام والانشغالات الشخصية للمواطنين هناك هو التعبير العملي عن نتيجة هذا التحرر الذي ينصرف بموجبه الناس إلى حيواتهم الشخصية وسبل الارتقاء بها بعيداً عن السياسة ودخانها.