في الجانب الكبير منها تجاوزت الحياة المعاصرة عبودية الإنسان للإنسان. كانت الصفحة الأشد بشاعة حتى من الحياة الحيوانية، لا أدري كيف سوّغها العقل وكيف قبل بها الشرف الإنساني طيلة عصور.
انتهت العبودية لكن آثاراً منها ما زالت تحيا سواء داخل الأمم نفسها أو صلتها ببعضها ولعلّ الأثر الأتعس الذي ما زال ماثلاً منها هو بقاؤها في سلوك وثقافة الفرد الواحد نفسه؛ عبودية المرء مع نفسه.
الإنسان يعمل، من حيث يدري أو لا يدري، على صنع عبودية تستبد به وتجعل منه بالتالي أسيراً لها.
لا صلة لهذه (المصنوعات) بما تسميه كارين كينجستون (كراكيب الروح) في كتابها الطريف (عبودية الكراكيب).
وكراكيب الروح في الكتاب هي كناية عن اختزان الذهن والروح بالذكريات المؤلمة وبالانشغال بالآخرين وبنقدهم وسوى هذا من مظاهر تقلق المرء وتجعل ذهنه مليئاً بكراكيب يتوجب عليه التخلص منها، حسب المؤلفة، ليرتاح ويتخفف من أعبائها.
استطراف هذا الكتاب لا يمنع من القول إن الكاتبة نفسها كانت رهناً لعبودية لم تحسبها وذلك حينما ضيّعت على نفسها فرصة خلق كتاب مهم عن تأمل عبودية المرء مع نفسه.
لقد استسلمت مؤلفة (عبودية الكراكيب) لاغراءات عبودية التسويق، تسويق الكتاب، فجعلت من كتابها وقفاً عند كلّ ما هو سطحي، سواء بما تؤشره من ظاهرات أو بطريقتها التعليمية السطحية في تناول الظاهرات.
لقد جعلت كينجستون من نفسها ومن كتابها رهينة التسويق وسطحية ما يفرضه الناشر ابتغاء لمجاراة سطحية القارئ ومتطلباته الرخيصة والاندماج بهذا الرخص والابتذال.
عبودية كينجستون للانتشار والتسويق لا صلة لها بـ (عبودية الكراكيب)، موضوع كتابها، ولكنها عبودية وثيقة الصلة بما يصنعه الانسان لنفسه من عبوديات يكون رهناً لها وتكون جهوده تعبيراً عن خدمة عملية متواصلة لتنفيذ متطلبات العبودية.
واقعاً كانت الإشارة إلى مؤلفة (عبودية الكراكيب) واتلافها فرصة خلق كتاب أكثر جدية هي إشارة عابرة قد فرضتها مصادفة غير مخطط لها وأنا أكتب.
حياتنا المعاصرة مليئة بخسارات أهم من خسارة كتاب، وهي خسارات ضاعت معها جهودٌ حين أُخضعت لمتطلبات غير عادلة وجرت الاستجابات بخسران الحرية.
في الفنون يحصل هذا؛ في الرسم والموسيقى والغناء، حيث تواصلَ التراجع والتخلي عن معايير الرفعة لصالح انحدار الذوق وهيمنة هذا الانحدار على اشتراطات التسويق وحاجات المستهلكين السطحيين، إنهم القطاع الأوسع الذي يحرك أسواق عرض تلك الفنون ويقبض عليها.
حيثما تكون رفعة الذوق تكون الأقلية.. هكذا ترعرعت رفعة الفنون والتأليف فيها بين نخب رفيعة.
الحاجات هي دليل المرء إلى عبوديته الداخلية، هي دافع التأليف في الفنون والآداب للخضوع لاشتراطات التسويق ولذوق العامة.
تمضي الفنون إلى هذا الخيار بـ (ملء الحرية) لكنها تخسر في العمق من أرواح مؤلفيها شيئاً من تلك الحرية لصالح ولادة عبودية داخلية لـ (شروط حرّة).