وحصل في بعض هذه السنوات أن كنت أعمل بثلاث صحف باليوم الواحد.
كنت أغادر البيت للعمل يومياً بالتاسعة صباحاً، فلا أعود إليه إلا بالثالثة فجراً، ومن دون عطلة نهاية الأسبوع.
كل شيء يهون أمام المسؤولية عن أطفال وعائلة يجب الحفاظ عليها بمواجهة تحديات صعبة وقاتلة.
كان عملاً مرهقاً، تذلل مصاعبه، أو تخفّف من قسوته، حيوية الشباب، واضطرار الحياة ووجوب إدامتها في ظروف الجوع والحصار.
لكن كان ما يزيد شقائي بالعمل وإرهاقي فيه هو اعتيادي على الحرص والإتقان فيه.
هذا ما تعلمته من الجندية ربما وقبلها من تربية منزلية، لقد كان هذا يزيد العناء لكنه بالمقابل كان مما يسهّل حصولي دائما على فرص العمل، وهو عمل متواضع بكل حال، وأيضاً يضمن التقدير والاحترام فيه، وكان هذا هو الأهم بالنسبة لي، لم أبق بعمل من دون هذا الضمان .
في واحدة من ليالي السهر المضني بالعمل، كنت بممر شبه مظلم ما بين غرفة تنضيد مواد النشر وغرفة التصحيح، وكنت أجرّ خطاي بنعاس وتثاقل واضحين، التقاني الزميل والصديق سمير مجيد العادلي، وكان مصححاً معي، بأكثر من صحيفة، قبل أن يكون واحداً من أفضل المحررين الصحفيين..
سمير أصغر مني عمراً، وبالتالي فهو أكثر تحمّلاً. استوقفني في ذلك الممر، وهمس لي بترددٍ: أنت بهذا ترهق نفسك، صعبٌ أن تستمر هكذا.
أخشى أن تخسر الشاعر الذي فيك.
قبله أنا أيضاً فكّرتُ بهذا الاحتمال، وكثيراً ما تحسبت منه، فقد كنت أخشى هذا المصير، ولكن لا خيار.
لا أعرف كيف رددت على سمير حينها:
فلأخسره، لا أريد هذا الشاعرَ إذا كان خسرانه ثمناً لمجرد تحمل مسؤولية شرف العمل من أجل حياة عائلة وكرامة عيشها بمثل هذه الظروف.
هذه الحياة الصعبة وذلك العناء والشقاء كانا بعد ذلك مولّداً شعرياً لجانب أساس من تجربتي وحياتي في الشعر.
كل ما تحياه بشرف وصدق لا يتعارض مع الوجود في الشعر والعمل فيه.