لا يكفي للدولة، أية دولة، أن تكون دولة حريات بمجرد السماح لمواطنيها بحقهم في التظاهر.
قد يحصل مواطنون على مثل هذا الحق حتى في دولة استبداد، وإن لم يحصلوا عليه طوعاً بدولة مستبدة فقد ينتزعونه من سطاتها انتزاعاً.
لنتذكر مئات الآلاف التي خرجت وأخرجت الشاه من الحكم، ولنتذكر مئات الآلاف الأخرى التي خرجت وأخرجت أيضاً زين العابدين بن علي، وكلا النظامين، في إيران الشاه وتونس بن علي، نظامان دكتاتوريان.
الحريات تفصحُ عن نفسها من خلال تفاعل وجدل بين طرفين مختلفين لكنهما إيجابيان في استثمارهما الحرية؛ والمختلفان الإيجابيان هنا هما متظاهرون محتجون سلمياً وسلطة متفهمة ومستجيبة اجرائياً.
أيّ إخلال من أي من الطرفين لا يعني إلا تحجيماً للحريات وتشويهاً لها وتقييداً لفرص التفاهم الايجابي؛ والاخلال يحصل عندما يصمت محتجون أو يسيؤون استخدام التظاهر أو لا يعبّرون بوضوح عن مطالبهم أو عندما تتعسف السلطات أو تبدو لا مبالية في مواجهة مطالب مشروعة.
قيمة الحريات هي في حفظها السلام المجتمعي. وكلما اتسع مدى الحريات ترصنت قوة الدولة وتقيدت فرص استخدام القوة واللجوء إلى العنف في حسم الاختلافات ليتعزز بهذا الحال السلم الاجتماعي وأمان الدولة.
ومن هنا تبرز مسؤولية الشعب في ادراك هذه القيمة النوعية للحريات وفي العمل على تعزيزها وتنميتها بينما تكون مسؤولية السلطات هي في تقديم البراهين للشعب دائماً من خلال حسن الاستجابة وسرعتها في مواجهة استخدام الشعب حقَّه في الحريات والتعبير عن
مطالبه.
ليس الشعب وحده من يحتاج إلى الحريات، السلطات هي أيضا صاحبة مصلحة حقيقة في تلك الحريات التي تؤمّن آلية من التفاهم الايجابي بين مؤسساتها وجماهير الشعب.
تحتاج السلطة الديمقراطية إلى الحريات التي يعبر من خلالها الناس عن آرائهم ومواقفهم مما فعلت المؤسسات وما يجب أن تفعله.
بُناة الديمقراطية الحقيقيون هم الذين يعملون على إكمال حاجة الحياة السياسية الديمقراطية إلى اجراءات يعبّر من خلالها الناس سلمياً عن مطالبهم وآرائهم، وهم الذين يدفعون بالناس إلى ذلك حين يكون الناس لم يتدربوا بعد على التمتع بحرياتهم ومطالبة الحكومات بحقهم.
لكن هذا الدور المأمول من أحزاب وقوى السلطة لا يتحقق بمثل هذه الطريقة السائدة في تنظيم الحكم في عراق ما بعد 2003.
الوضع الأسوأ الذي تبدأ به ديمقراطية ناشئة هو تسفيه تقاليد الديمقراطية وتبديد ثقة الناس بجدوى هذه التقاليد.
يحصل هذا حينما يصحو شعب الديمقراطية على حقيقة أن حقه وحريته بالمطالبة لايعدوان كونهما كلاماً هوائياً ضائعاً في شبك اللا مبالاة التي تبديها السلطات إزاء ما تسمعه من نقد وما تتجاهله من مطالبات.
ويحصل كل هذا عندنا وذلك لأن ديمقراطيتنا شوهاء.
وإلا فأي برلمان هذا الذي يعمل منذ بدئه كقوة موالاة مطلقة بانعدام أي تمثيل معارض؟