دينامية النص الشعري
في قصيدة الشاعرة العراقية فاطمة الزبيدي
يقول الشاعر الأمريكي المعاصر لوسس بيكينو كلازير أن لبعض النصوص دينامية تتيح إمكانات جديدة للقراءة لها والوقوف أمام تحدياتها الكبيرة في الكيفية التي سنفهم تلك القراءة باقترابنا من أشكالها وأغراضها المتعددة ما يضطرنا في النهاية إلى أن نبحث عن فكرة وجود تلك الدينامية التي سيكون لها شكلها الثابت على سطح النص الشعري من أجل "قراءته" والنظر له بعمق وفي النهاية استكشاف معالمه اللغوية والجمالية، وبالطبع يمكن للمرء أن يقول أن دينامية النص الذي يختلف في كل قراءة له هو مجرد تصوير لحقيقة لا تقبل الجدل أنه حتى في قصائد رامبو سنجد ما هو مختلف في كل مرة نقرأها اعتمادا على جوهر الخصائص الموجودة فيها خاصة في قصيدتهThe Drunken Boat "المركب السكران" وقصائد أخرى التي نجد فيها خصائص التجدد، الطاقة، القوة، وهي العوامل المؤثرة التي تعمل من خلالها دينامية النص الشعري سواء أكانت على النص نفسه أو على المتلقي بصفته شريكا له. في بعض الأحيان ينظر للنص على انه انزلاق المعنى نحو مشهد مألوف أو معين ينظر له من نقطة دخول جديدة، هذه النقطة قد تشكل القراءة العملية لفهمه كما تقول الكاتبة والشاعرة الإنكليزية كارول رامينس وهي تقدم قراءتها لقصيدة الشاعرة الإيرلندية مويا كانون، هذه المقدمة كانت ضرورية للدخول إلى نص الشاعرة العراقية القديرة فاطمة الزبيدي "الدهر مختنق بالهواء" والتي شعرت بديناميتها منذ قراءتي أبياتها الأولى:
ينطفيءُ مرتين..
يسيرُ الهوينا على أطراف أوجاعـِهِ
يبعثرُ مافي جيبِهِ من أحلامِ القمرِ
يلعنُ الماء المتجمد في رحمِ البحيرات
وكفاقدِ العقلِ يُتمتمُ بعيداً عن السامعين
ثُمَّ..
يُهرولُ صوبَ الجنون
في ذَلِكَ المنعطفِ حيثُ لا أحد..
فَرش عباءةَ الحنين واستلقى على عشب ِ
الخيالِ
الشاعرة الزبيدي في أبياتها هذه تنظر أسفل الوجع الإنساني حيث:
"يسير الهوينا على أطراف أوجاعه
يبعثر ما في جيبه من أحلام القمر" .
هي تحاول في إشارة إلى بيتها الخامس أن يكون لذلك التوجس عقله المفقود الذي يتمتم بصمت بعيدا عن الناس ثم سرعان ما تضرب "بقوة" وهي إحدى خصائص دينامية النص الشعري التي أشرنا لها لتنطلق من خلال بيتها السابع "يهرول صوب الجنون..". هذه الإنفعالات هي وحدة تكّون الألم داخل النفس البشرية الباحثة عن مصيرها، لكنها:
"في ذلك المنعطف حيث لا أحد فرش عباءة الحنين واستلقى على عشب الخيال". تحيلنا النصية الشعرية بعد انتقالها من الإنفعالات الواردة في بيتها السابع إلى ثيمة الإنتظار التي تتكرر مثنى وثلاث في الأبيات الأخيرة من القصيدة:
استَلّ جُذاذة البساتينِ
وبدأٓ يقرأُ النخلةُ مازالتْ عاريةً..
النهرُ سرقَ السعفَ والكَرب..
شجرةُ البرتقالِ نَثرَتْ كُلَّ قِداحِها
في انتظارِ فارسِها المهاجر ِ
أقسَمَتْ أن لاترتدي بياضاً
أخْفَتْهُ في سُرَةِ الأَرْضِ.
الإنتظار الذي أول ما تقاسيه المرأة هنا، انتظار الزوج، الحبيب، الأبناء، وقد يكون الوطن، متى تنقشع عنه الغيوم السوداء ليعود معافى يحتضن الجميع، وعندما تيأس من هذا كله هنا يكون قسمها حاضرا وهو خيارها الوحيد أمامها: أقسَمَتْ أن لاترتدي بياضاً أخْفَتْهُ في سُرَةِ الأَرْضِ" الزفافُ بعدَ غمضةِ دهر "قالها.. وانتفضَ ملدوغاً أشاحَ بحسرتِهِ نحوَ مقبرةِ النخيل -انتظريني.. تكمن "قوة" هذه الأبيات في "تجدد" لغتها حيث تقترب في ديناميتها من الرفض الإنساني لكل ما مر ويمر من قسوة الحياة ومرارتها وكأننا نعيش في مجتمع يسخر بالديستوبيا أو العالم المرير الذي أشار له اليونانيون بالمكان الخبيث المتجرد من إنسانيته أو كما تقول شاعرتنا الزبيدي في الأبيات الأخيرة من قصيدتها:
مازالَ الدهرُ مختنقاً بالهواءِ
يتكيءُ على جليدِ الإنتظار
يراوحُ عِنْدَ منافذِ الحدود
المنافذُ.. لاحدود لصبرِها
الصبرُ..
مشنوقٌ في حناجرِ اللاهثين..
أنا ومن منطلق قراءتي لنص الشاعرة القديرة فاطمة الزبيدي "الدهر مختنق بالهواء" وجدته مختنق أيضا بالإحباط الذي ولدته ديستوبيا التلوث والفقر والانهيار المجتمعي والقمع السياسي والشمولية في كافة وجوه الحياة التي نعيشها، هذا الإحباط سبق وأن تناوله شعراء كثر عانوا منه عاطفيا ونفسيا وأنتجوا لنا آيات من الشعر، فلو قرأنا "الصيحة" وهي قصائد مختارة للشاعر الإنكليزي المعروف سيمون أرميتاج الصادرة عام 2005 والذي يعتبر خليفة للشاعر والكاتب الإنكليزي الشهير فيليب لاركن في سهولة وجزالة شعره الوطني والعاطفي والوجداني لوجدنا في مجموعته هذه صوتا آخرا قادم من بعيد يحمل هما كالذي حملته شاعرتنا الزبيدي والذي لا يريد أن ينتهي بسهولة.