احلام نبوية (1)
فهم معضلة الوحي اخذت من الدكتور عبد الكريم سروش سنين عمره ابتدأها بالتجربة النبوية واظن انها لن تنتهي باحلام نبوية ،وانما هي سلسلة حلقات للوصول الى فهم ذاك الطلسم المقدس، وكيفية وصول الخطاب الالهي الى الناس.. تلك الحالة التي قد تسالمت عليها اجيال المؤمنين واعتبروها من البساطة بالدرجة التي لا تستحق معها كل تلك الابحاث ،لكنها ليست كذلك بل هي المعضلة الكبرى التي تكسرت عليها اسنة الفلاسفة والمفسرين بين المحاذير الفلسفية وظواهر الخطاب الالهي في القرآن وعلى الخصوص تلك النصوص التي تتحدث عن المعاد الجسماني وصور الحياة ما بعد الموت من نعيم الجنة وعذاب جهنم..
هذا المقال يتضمن قراءة لنظرية سروش بشقيها التجربة النبوية واحلام نبوية مع الاشارة الى بعض النقاط الغامضة في النظرية مع التسليم بانها تكشف عن بعض الضبابية في الرؤية الى الوحي الالهي بالنسبة الى القرآن.
التجربة النبوية
يضرب سروش الامثال في كل ما يكتبه لقراءه او يلقيه على مستمعيه في بيان ان النص القرآني انما هو انعكاس لواقع الجزيرة وتلخيص للتجربة الروحية والاجتماعية للنبي، وان هنالك احكاما تضمنها القرآن جاءت كرد فعل لبعض الظواهر الجتماعية الخاطئة التي كانت تمارس من قبل سكان الجزيرة كقتلهم لاولادهم خشية الفقرمثلا...، او انها احكاما تناسب المجتمع الرجولي وما تضفيه من امتيازات تفرضها الحالة الاقتصادية السائدة انذاك.. فبعض تلك الاحكام تشكلت واتخذت ابعادها بفعل التاريخ والثقافة، وقد تفقد تلك الاحكام موضوعاتها ولم تعد الحاجة اليها في مجتمع ذات طابع ثقافي اخر .
وتفسر ايضا تعبيره بأن الدين حالة بشرية بمعنى ان النبي يبعث الى الناس ويتحرك مع حركتهم فتارة يأخذهم الى هذه الجهة وتارة الى الجهة الاخرى .. مرة الى الحرب واخرى الى الصلح وبحسب الشرائط التي تقتضيها كل مرحلة.
والدين هو مجموع تلك الحركات والمواقف التاريخية التي تدور حول المحور الذي يمثله االنبي اذ ان القرآن لم ينزل دفعة واحدة والى الابد ليخبر النبي ان اذهب الى قومك بهذا الكتاب ونذرهم عذاب بوم شديد ليذكروا ويهتدوا.. وانما نزل تدريحيا وعلى مدى ثلاثة وعشرين عاما وخلال تلك الفترة اكتملت قواعد الدين ووعى المسلمون التجربة واصبح النبي اكثر تجربة في ادارة شؤون المسلمين، واكثر نبوة من ذي قبل، فاصبح نزول الوحي هينا بعد ما كانت تصاحبه حالات من الاعياء والاغماء، وهوما يفسر نزول السور القصار في مكة ونزولها طويلة في المدينة، وكذلك حدث لموسى (ع) عندما فزع من عصاه حين تحولت الى ثعبان في بداية بعثته، وهذا يحدث للشعراء والخطباء وبقية الاختصاصات ايضا عندما يصبحوا اكثر شاعرية واكثر خطابية اثناء تجربتهم الشعرية او الخطابية ...
مثال ذلك: ان الاستاذ في قاعة الدرس يعلم اجمالا ما يريد القاءه على تلاميذه من افكار ابتداءا.. لكن وخلال الفترة الزمنية للدرس قد تحدث امور غير متوقعة وغير محسوبة سلفا من قبل الاستاذ لكنها تصب في النهاية في مصلحة الجميع كنوع الاسئلة التي تطرح من قبل التلاميذ مما يساعدهم على ادراك اعمق لما يريده الاستاذ كما ان الاستاذ تتفتح عنده افاق قد تكون خافية عنه ومن خلالها ايضا يميز الاستاذ من بين تلاميذه الجاد من المغالط والصالح من الطالح، ويكون مهيأ للمواجهة ايضا.
فالعلاقة بين الاستاذ وتلاميذه ليست على نحو الالقاء والتلقين وانما هي عملية تفاعل وتلاقح للافكار واستنتاجها وصياغتها بما يخدم العملية التعليمية ككل. فهناك اسئلة واشكاليات تطرح من هنا وهناك لاحراج النبي والقرآن يجيب عنها بأسهاب ويخبر عن وقائع الامم السالفة وينتقد ظواهر اجتماعية معينة في الجزيرة وينقل احداث كثيرة وقعت.
كل ذلك تجد صداه في القرآن، ولو ان النبي عمر اكثر من ذلك لنعكس صدى تلك الاحداث في القرآن ايضا، ولو ان واقعة الاحزاب لم تحدث لم نجد لسورة الاحزاب من اثر في الكتاب، ولو ان زوجة ابي لهب لم تحمل الحطب لايقاده بوجه النبي وصحبه لم نجد اثر لسورة تب في القرآن الكريم..
يقول الدكتور سروش:
ان هنالك طريقان لنقل الرسالة:
الطريقة الببغاوية المتمثلة بنقل الرسالة كما هي ومن دون ادخال تعديل عليها.
والطريقة النحلية المتمثلة بتلقي الرحيق ثم صياغته على شكل عسل لذيذ فيه شفاء للناس.. والنبي {على خلاف ما تذكره الروايات لم يكن مجرد ناقلا للوحي الى مستمعيه من الناس وانما كان له دور محوري في صياغة الوحي.
وبناءا على ذلك يدعو الدكتور سروش من خلال قراءته هذه الى التعامل مع النص القرآني على اساس فهم جوهر وروح الرسالة التي يحتويها من دون التقيد بالالفاظ والاصرار على ان القرآن كلام غير مخلوق وانه كتاب الله الخالد.
ومما تقدم يتضح الفرق بين مقولة ان القرآن من ابداعاته (ص) او اعانه عليه بعض اهل الكتاب ممن التقاهم في سفره وحضره فهو كلام محمد وليس كلام الله، وبين مقولة ان الوحي هو اختزال للتجربة الداخلية والخارجية للنبي (ص) فهو سهيم في صياغة النص، والنص انعكاس لحالاته خلال فترة بعثته(ص).
انما نوهت لهذه المفارقة لان هناك من فهم من عبارات الدكتور سروش انها تكرار لما قيل ويقال من ان القرآن هو كلام محمد (ص) اذ المناط في كلا المقولتين متحد وهو ان الاسلوب البلاغي لم يجر على نسق واحد.
والملاحظ من خلال قراءة النصوص القرآنية ان هناك نصوصا على مستو عال من البلاغة ونصوص اخرى ليست كذلك وهذا التفاوت يعكس الحالات البشرية للنبي والتي بدورها تنعكس على النصوص وبهذا القدر من الاختلاف .
ثم ان النصوص التي تتحدث عن بدء الخلق والافلاك تعكس ايضا الطبيعة المحدودة والتصورات السائدة في تلك الفترة، وهذا الامر نجده في بقية الكتب المقدسة ايضا، ومن هنا نشأ التصادم بين الايمان والعلم ثم استقرت الامور على الاعتقاد بأن النظريات العلمية التي تتضارب مع النصوص المقدسة ما هي الا فرضيات يحتمل فيها الخطأ والصواب وان صحت فلابد من حمل النصوص على غير معانيها التي استنبطناها من قبل، حيث كان الاعتقاد سائد حتى القرن التاسع عشر بعلم الهيئة البطليموسية لتفسير السموات السبع ثم بعد ذلك اتجه المفسرون لتاويل تلك الايات لرفع التهافت بين النصوص المقدسة والنظريات العلمية.
طبعا هذا الامر لا يخل بنبوة النبي اذ من غير المتوقع ان يكون النبي محيطا بجميع العلوم حتى الفلكية منها مما لا مدخلية له في الهدف من البعثة وهو هداية الناس.
هذا تلخيص لما استفدته من مجموع مقالات الاستاذ عبد الكريم سروش المجموعة في كتابه "بسط تجربة نبوي" الذي تكلم فيه بأسهاب عن نظريته حول الوحي والتجربة النبوية.
ومن خلال مجموع محاضراته و لقاءاته الاعلامية ايضا. وحرصت على قرائتها او الاستماع اليها بلغتها الاصلية اعني الفارسية، ومن دون المراجعة الى الترجمة العربية للنصوص المستعارة للدكتور سروش من قبل الكتاب العرب اثناء دراستهم لاراءه في مجال الوحي والنبوة، ولم اعتن كثيرا بخطاباته بالانكليزية في الموضوع ذاته لسبب بسيط وهو اني وجدت مجموع مقالات الدكتور سروش يعلوها الطابع الادبي والعبارات الانشائية، وغالبا ما يقرن استنتاجاته بشواهد من المثنوي لجلال الدين الرومي مما يجعل بعض العبارات عائمة ولم تعط للمعنى الدقيق حقه من اللفظ كما ينبغي في مثل هذه الموضوعات الحساسة التي تقتضي اللغة العلمية لا الادبية.
بأستثناء المقابلة التي اجراها معه ميشيل هوبينك من الاذاعة الهولندية ونشرت ترجمتها الفارسية باسم "كلام محمد"، والتي اثارت لغطا واسعا في ايران. ابتدئها بقوله ان الوحي هو ذات الالهام الذي يحصل للشعراء والعرفاء الا انه يحصل للانبياء بمرتبة اعلى.. فالنبي يشعر كالشاعر بقوة خارجية ملهمة وفي ذات الوقت يكون هو المنتج والصائغ لهذا الالهام فتكون ذاته الهية كما ان كل واحد منا له ذات الهية لكن النبي يشعراكثر من غيره بهذه الذات الالهية، وما يتلقاه من الله هو جوهر القرآن ولا يمكن نقل الجوهر للناس كما هو، لانه ليس من سنخ التوصل الانساني فلابد من صبه في قالب الالفاظ وعلى شكل اللغة التي يعرفها ويفهمها الناس ايضا، وبهذا تكون لشخصيته مدخلية في اسلوب الطرح ولمزاجه ايضا، فاحيانا يكون حاد المزاج بليغ اللسان واحيانا اخرى يصيبه الملل ويقل حماسه..
كل هذا له مدخلية في تشكيل القرآن، وهذا هو الجانب الانساني في الوحي، والنبي كان يتكلم بلغة عصره ولم يكن يعرف اكثر من معاصريه عن علم الفلك او الوراثة او غيرها من العلوم لانه نبي وليس فلكيا.
والجديد في هذه المقابلة هو الوضوح نوعا ما في بعض ما كان قد طرحه سابقا.. لكن بالاجمال تبقى أراء الاستاذ عبد الكريم سروش في باب الوحي والنبوة تحيطها الضبابية والغموض، رغم انه ذكر غير مرة ان نقاشاته في الوحي كانت مطروحة سابقا وعلى اشدها زمن الصراع الفكري بين الاشاعرة والمعتزلة في مسألة خلق القرآن وكذلك مفكري القرون الوسطى لكن طروحاتهم كانت تفتقر الى المنهجية والسلاسة في التعبير وكانت افكارهم مختبئة تحت الالفاظ خوفا من التشويش على الناس.
لكن الدكتور وقع فيما فر منه وكانت افكاره ايضا مختبئة تحت الالفاظ يظهرها تارة عندما تخفت اصوات المحافظين ويخفيها تارة اخرى عندما ترتفع اصواتهم.
ويظهر ايضا ان الامر لم يكن جليا عند سروش ايضا لفهم واقع الوحي رغم انه تقدم خطوة مهمة على طريق الفهم، ومن هنا خرج لنا بنظرية مكملة للتجربة النبوية ادعي فيها التوفيق بين ما توصل اليه الفلاسفة المسلمين كصدر المتألهين وبين المفسرين المتمسكين بظواهر القران تلك هي نظرية احلام نبوية
احلام نبوية
الطامة الكبرى في قضية فهم الوحي تكمن في لغة القرآن ذاتها وانها من سنخ لغة البشر او من سنخية اخرى بأعتبار ان البشر يمتلكون ادوات اللغة واللسان والحلق والذان والامواج الصوتية وما الى ذلك من الادوات التي تشكل الاصوات ومن خلالها يتم التعبير عن المراد، فهل لغة الله مع الملائكة او مع الانبياء من هذا النوع او لا!
من الواضح ان لغة القرآن بشرية وتعكس تجربة النبي ولغته وبيانه والتي اصبحت بالتدريج اكثر نبوية واكثر بيانا، زلو طال به العمر لكانت اكثر من ذلك "ربي زدني علما" طه 114.
اذن لغة القرآن عربية عرفية بشرية ومنشؤها ضمير النبي وقدسيته وتجربته، وهذا يعني ان الله لم يقل خطابا ولم يكتب كتابا، بل الانسان التاريخي تكلم وكتب بالنيابة عنه.
لكن هذا لا يكفي لفهم لغة الوحي اذ ان هنالك نافذة كبيرة لفهم الوحي لازالت مغلقة ولفتح تلك النافذة لابد من ضم ضميمة اخرى لما تقدم علها تشكل مفتاحا لفهم لغة الوحي.
النبي راوٍ
ختام القصيدة بالمطلع.. تلك هي النتيجة التي خرج بها الدكتور سروش من نظريته التي نشرها بالفارسية تحت عنوان "محمد راوي رؤياي رسولانه" فهو غير مخاطب وليس بمخبر وانما هو راو لتجارب وناظر لمناظر شاهدها..
وفرق عظيم بين ناظر و راو وبين مخاطب
" شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولو العلم قائما بلقسط " العمران 18
هذا الخطاب ينقل بطريقتين:
¨اذهب واخبر الناس ان الله واحد والملائكة تشهد على ذلك
¨باعتبار وصف الله بانه واحد والملائكة شاهدة عليه.. النبي شاهد ذلك و روى تلك المشاهدة للناس. حينئذ وبطريقة المشاهدة هذه يمكن تصور الخطابات الالهية في القرآن على هذا النحو:
للحديث تتمة