ثمة موقفان رئيسان مختلفان تماما بصدد الموقف من استفتاء البارزاني ومن مبدأ حق تقرير المصير للأمة الكردية. هذان الموقفان يتداخلان في ميدان وينفصلان ويتفرعان في ميادين أخرى الى مواقف فرعية بشكل شديد التعقيد ومع ذلك سأغامر بمحاولة التلخيص فأقدم تصورا أوليا للموقفين الرئيسين. الموقف الأول: يرفض استفتاء البارزاني ولكنه يؤيد حق تقرير المصير للأمة الكردية، وهو الموقف الذي أتبناه شخصيا وسوف أتوقف تفصيلا عنده في فقرة أخرى.
الموقف الثاني: يرفض استفتاء البارزاني ولكنه يرفض معه حق تقرير المصير للأمة الكردية ككل، أو - هذا موقف يتفرع عنه - أنه يقرُّ بهذا الحق لفظيا ولكنه يرفضه عمليا إذا بلغ درجة المطالبة بإقامة الدولة الخاصة بهذه الأمة ويشترط له شكلا محددا كأن يكون الحكم الذاتي أو الدولة الاتحادية "الفيدرالية". تتفرع من هذين الموقفين أو الفهمين مواقف فرعية أخرى تقدم عرض واحدا منها ومنها أيضا:
- موقف تأييد استفتاء البارزاني وإقامة دويلة في جزء من كردستان وتحريضه سرا على القيام به وعدم التراجع عنه مع إبداء بعض التحفظات حول تداعياته علنا أمام الجمهور العراقي وهذا الخط هو الذي تختطه القيادة المهيمنة على الحزب الشيوعي العراقي ومحازبوها والقريبون منها إذا حدث وان خرجوا عن صمتهم التقليدي.
هذه القيادة ذيلية وتابعة للأحزاب القومية الكردية منذ عدة عقود ولا تستطيع الانفكاك من مواقف التبعية لتلك القيادات.
- وهناك موقف فرعي آخر يتحفظ أصحابه على إجراء الاستفتاء ويدعون الى منافسة القيادة القومية البارزانية وتشديد النضال ضدها من منطلقات أيديولوجية يسارية فهلوية ولكنهم لا يرفضونه ولا يرفضون حق تقرير المصير وهذا موقف بعض الأحزاب اليسارية الصغيرة وهو موقف قومي وانتهازي من حيث الجوهر يسمي نفسه يساري وعمالي من حيث اللفظ والشكل فقط ولا يختلف عن الموقف الانتهازي والذيلي الذي يتبناه الحزب الشيوعي / اللجنة المركزية.
¨ولكن ماهي الأسباب التي يطرحها الرافضون لاستفتاء البارزاني؟ يمكن إجمال أهم وأشهر هذه الأسباب في القائمة التالية:
- مشروع البارزاني مشروع أسري إقطاعي يقوده رئيس منتهي العهدة ولا شرعية له قام بتعطيل برلمان الإقليم وطرد رئيسه من مدينة أربيل بقرار شخصي منه. -البارزاني متحالف مع دولة عنصرية هي إسرائيل عدوة العراق وشعوب الشرق عموما ويعتمد على تأييدها الصريح والوحيد ومتحالف مع الدولة التركية التي تعادي وتضطهد وتقتل الأكراد في تركيا.
- البارزاني متهم هو وإدارته بالفساد والتصرف بأموال نفط الإقليم بشكل شخصي وسري ولا يؤتمن على مستقبل الشعب الكردي في الإقليم.
- مشروع البارزاني لم يأخذ بنظر الاعتبار حالة الحرب التي تخوضها الدولة العراقية ضد التمرد المسلح التكفيري الداعشي واستغل انشغال القوات العراقية النظامية بهذه الحرب بل هو استغل هذا الظرف ووجه هذه الطعنة لظهر للدولة العراقية والنظام الذي يشارك فيه بأكبر من حجمه السكاني.
- البارزاني وحلفاؤه في حزب الطالباني هم مؤسسو نظام الحكم القائم في العراق على أسس دولة المكونات والمحاصصة الطائفية والعرقية، وهم كتبة دستوره الرئيسيون ويتحملون بالتالي المسؤولية كاملة عن كل ما حدث في العراق منذ 2003 ولا يمكنهم التلطي خلف فشل الأحزاب الشيعية لأنهم شركاء بل وأكثر من شركاء لهم.
- مشروع البارزاني يضر شديد الضرر بقضية الأكراد في الدول الأخرى كتركيا وإيران وقد تتحول دولته في شمالي العراق إلى منفى و"حل نهائي" بالتعبير النازي الهتلري للقضية الأمة الكردية وعلى حساب مصالح العراق وأراضيه التي احتلت قوات البيشمركة البارزانية والطالبانية مساحات واسعة منها.
هناك أسباب أخرى من وجهة نظر المدافعين عن نظام المحاصصة ودستوره كالقول إن الاستفتاء غير دستوري ومن طرف واحد ..الخ.
وهذه الأسباب تعني القائلين بها فحسب، ولا تعني الرافضين لهذا النظام ودستوره ككاتب هذه السطور، رغم أنها تتماس مع الخط العام لما يطرحه هؤلاء الرافضون في بعض النقاط. ولكن لماذا يرفض البعض حق تقرير المصير للكرد؟
¨ننتقل الآن إلى عرض أهم وأشهر الأسباب التي يطرحها رافضو حق تقرير المصير للأمة الكردية مع ردود أولية ومقتضبة عليها.
- الحجة الأولى هي إنكار وجود "أمة كردية" أو "شعب كردي" أصلا فالأكراد من وجهة نظر البعض هم "عرب الجبال" في العراق، وهم "ميديون فرس" في إيران، وهم "أتراك الجبال" في تركيا، حسب الخطاب القومي العنصري في هذه الدول، أو هم أقوام مهاجرة لا أرض لها ولا وطن، وهذا الخطاب ذو جوهر عنصري بحت يكرره دعاة الخطاب القومي العنصري بمختلف لغاته العربية والفارسية والتركية. ويمكن تفنيد هذه الترهات العنصرية بسهولة فالكرد أمة متمايزة عن غيرها من الأمم المجاورة لها لغة وتاريخ وجغرافيا وهي مقيمة على أرضها التاريخية منذ قرون عديدة بل هي أقدم بقرون عديدة من أتراك الأناضول أنفسهم في الشرق الأوسط. أما كونها كانت بدوية مهاجرة في فترة معينة من تاريخها القديم فهذا لا يطعن بأصلتها كسائر الأمم العريقة التي مرت بمرحلة البداوة كأمة العرب في آسيا والشعوب العربية "المستعربة" في أفريقيا وشعوب أخرى في أفريقيا وآسيا.
- وهناك حجة عدم وجود دولة للأكراد في الماضي التاريخي. هذه حجة لا قيمة لها علميا وقانونيا لأننا لو أحصينا عدد الدول القائمة الآن والتي لم يكن لها وجود أو تراث دولتي قبل 70 عاما لما انتهينا من العد وهذه بعض الأمثلة: الكويت وقطر والأردن وتونس وأريتيريا وعدد كبير من الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.
- يزعم البعض أن حق تقرير المصير خاص فقط بالأمم والشعوب المستعمرة. وهذا السبب أو الحجة متهافتة منطقيا إذ لا يمكننا ان نتصور وجود شعب غير مستعمر في الماضي والحاضر دون أن تكون له دولة مستقلة إلا إذا كان هذا الشعب يريد ان يكون بلا دولة رغم أنه غير مستعمَر وهذه حالة لا وجود لها. إن حق تقرير المصير لا علاقة تعليلية ووجودية له من حيث الأساس بوثائق الأمم المتحدة حول قضية "تصفية الاستعمار والوصاية على الدول الصغيرة" كواحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية. وليست وثائق الأمم المتحدة بهذا الخصوص ذات صلة بحق تقرير المصير الأساسي والعام والبدئي (بما يعني: حق الشعوب والأمم جميعا وكلا على حدة في العيش بحرية وكرامة ودون خضوع لأمة أخرى) لأن هذا الحق سابق وأصل لهذه الوثائق وليس فرعا وتجسيدا لها أو لجزء منها. وتأريخيا فإن أول تجسيد وثائقي لهذا الحق يعود إلى عهد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر 1789، ولكن الدول الاستعمارية كانت تحتال عليه أو ترفضه بكل سهولة لضمان مصالحها الاستعمارية القارية كما فعلت فرنسا ما بعد الثورة ذاتها حين احتلت الجزائر وألحقتها بدولتها طوال مائة واثنين وثلاثين عاما.
حق تقرير المصير هو أحد تجليات مبادئ الحرية الفردية والجماعية للشعوب والأمم، ورفضه يعني رفض مبادئ الحرية الإنسانية في أبكر صورها وتعبيراتها والانحياز للظلم والاستعباد الجماعي للشعوب والأمم الصغيرة من قبل الأمم والدول الكبرى والقوية.
- حجة أخرى يسوقها رافضو حق تقرير المصير الأكراد في العراق ومفادها أن الأكراد في العراق حصلوا على ما لم يحصل عليه بنو جلدتهم في الدول الأخرى من حقوق وامتيازات ثقافية وقومية. وتبوأوا مناصب كبرى في الدولة العراقية منذ العهد الملكي.
والرد هنا يمكن اختصاره بأن نيل الأكراد لجزء من حقوقهم في العراق أو غيره لا يُسقِط الجزء الاخر منها بالتبعية وإذا كان يحسب للدولة العراقية موقفها هذا فسيحسب عليها أيضا سجل جرائم ومجازر بعض أنظمتها التي بلغت درجة استعمال السلاح الكيمياوي والتهجير القسري واسع النطاق" الأنفال" بحق الكرد.
- هناك من يناقش حق تقرير المصير بناء على أيديولوجيته الخاصة، سواء كانت الماركسية أو الإسلامية الشيعية أو السنية او القومية البعثية وغيرها. وهؤلاء الأيديولوجيون لا يمثلون إلا أنفسهم وأيديولوجيتهم كما فهموها بطريقتهم الانتقائية هم – وفهمهم أختلف معهم فيه، بخصوص الماركسية مثلا - لأنه فهم ليس ملزما لغيرهم.
فالأيديولوجية أيا كانت تبقى أيديولوجية بين عشرات الأيديولوجيات الأخرى وهي ملزمة لمن يعتنقها بشكل دوغمائي جامد وليس لمن يتبناها كمنهج عقلاني نقدي في التفكير، ولن نحيد عن الصواب لو قلنا إن هذه الأيديولوجيات من الناحية التطبيقية وفي التجربة التاريخية المتحققة متماثلة جوهرا.
فالإسلامي الذي يريد للكرد أو غيرهم ان يعيشوا في دولته (الخلافة الراشدة أو ولاية الفقيه) متحابين وسعداء تحت (راية الإسلام الذي لا يفرق بين الناس) ينسى أنه هو من يحكم هذه الدولة ويمنحها صفتها وهويتها القومية وليس الكردي. هذا الإسلامي لا يختلف تطبيقيا عن اليساري من النموذج الستاليني أو القومي البعثي أو غير البعثي في مصادرة حق الكردي وغير الكردي في تقرير مصيره كقومية ثانية أو ثالثة في البلاد وهو جزء من أمة أكبر، وتحدث هذه المصادرة باسم شعارات "جميلة" أخرى.
فماذا بخصوص وضع الكرد في العراق؟ يتبع
يتبع.