كنا قد توقفنا عند حملة الهجاء والتشنيع المذهبي ضد الشخصية التاريخية الإسلامية صلاح الدين الأيوبي في مقالة سابقة نشرت في الأخبار / العدد 3252 في 17 آب 2017، نتوقف اليوم عند اثنين من الاتهامات المتفرقة التي وجهها خطاب النقد والهجاء المذهبي والطائفي المعاصر لصلاح الدين. الأولى، أنه (ساوم الصليبيين ورفض قتالهم حتى اصطدم به نور الدين الزنكي). وقد قلنا إن وقائع التاريخ أكدت للجميع أن صلاح الدين وخلال حربة الطويلة، هادن وفاوض وأعطى إتاوات وانسحب وتراجع مثلما قاتل وهاجم وانتصر وحرر مدنا، وأخذ إتاوات من العدو الإفرنجي، وهذا أمر لا مثلبة فيه لقائد خاض سلسلة من المعارك في حرب طويلة استمرت في موجات متتالية قبله وبعده طيلة قرابة الثلاثة قرون (من سنة 1096 إلى سنة1291)، أما صدامه مع نور الدين عسكريا فلم يحدث قط، والذي حدث فعلا ك، ما يروي جميع المؤرخين لتلك الفترة، هي جفوة أو وحشة بمفرداتهم، بين صلاح الدين وأميره وقائده نور الدين. وكاد الأمر يصل إلى درجة الصدام فعلا، ولكن صلاح الدين انسحب ولم يصطدم بقائده مرتين، وعاد الى مصر بقواته. ولكن وجود خلاف كبير بين الرجلين آنذاك أمر أكيد، ولعله يؤشر على وجود طموحات استقلالية مبكرة لدى صلاح الدين بمصر. غير أن هذا لم يحدث ولم ينفصل صلاح الدين بمصر عن نور الدين في الشام وتحدث القطيعة وحالة العداء بين الرجلين والإمارتين، بل استمرت العلاقة بينهما حتى بعد فتح اليمن من قبل قوات الأيوبي، ولكن تلك العلاقة لم تكن تخلو من الجفاء والتشنجات، كما إننا نقع على إشارات لدى بعض المؤرخين على ندم نور الدين على إرساله صلاح الدين وعمه شيركو إلى مصر للسيطرة عليها. ولكن تلك الإشارات وغيرها ينبغي أن تؤخذ ضمن ما آلت اليه الأمور لاحقا، وتساوقا مع الظروف التاريخية آنذاك. إن قضية الخلاف بين صلاح الدين ونور الدين كانت قد طرحت أول ما طرحت من قبل مؤرخين غربيين، مُستنِدين إلى روايتَي كيناموس ونكيتاس، وقد اعتمد هذان المؤرخان في روايتيهما على روايتَي المؤرخ ابن الأثير المعروف بانحيازه لنور الدين وللأسرة الأتابكية ضد صلاح الدين، والمؤرخ ابن أبي طي هو شيعي المذهب مناوئ للاثنين معا مذهبيا، ولكنه مؤرخ محترف وتآليفه رصينة بشكل عام كزميله ابن الأثير. ويخلص الباحث د. حجازي عبد المنعم سليمان في دراسة له حول الموضوع إلى الآتي ( وقد يبدو للمُطَّلع على روايتَي ابن أبي طي وابن الأثير، أن العلاقات قد تجمَّدت بين نور الدين وصلاح الدين بما أن نور الدين قد عزم على غزْو مصر، ولكن الغريب أن العلاقات ظلَّت قائمةً؛ بدليل وصول خطاب صلاح الدين إلى دِمشق يوم وفاة نور الدين، وهو الخطاب الذي حمل أسرار المؤامَرة التي دبَّرها عمارة اليمني بهدف القضاء على صلاح الدين وجيشه في مصر، وينمُّ وصف صلاح الدين لكيفية تصدِّيه للمؤامرة عن وجود استياء، بل وعن وجود تواصل بينه وبين نور الدين. ومِن جِهة أخرى فإن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين قبيل وفاته ربما بأيام معدودات -في أوائل شوال 569هـ -ببشارة فتح اليمن، ففرح بذلك وأرسل البشائر إلى الخِلافة -العباسية ببغداد-وسائر بلدانها)"1". أما بخصوص اتهام صلاح الدين ببدء الاستيطان اليهودي في فلسطين ومصر واعتباره بداية لقيام دولة إسرائيل كما يقول خالص الجلبي"2"، فهو أولا اتهام لا تاريخي تماما لأن فلسطين ككيان جغراسياسي لم تكن قائمة كما هي في القرن العشرين وبدء هجوم الحركة الصهيونية عليها بدعم بريطانيا التي كانت تحتلها، بل كانت – فلسطين- جزء لا يتجزأ من بلاد الشام وكان بعض الجغرافيين يعتبرونها بمثابة "سوريا الجنوبية" أضف إلى ذلك أن الوجود اليهودي السكاني فيها وفي سائر دول المشرق العربي وحتى في الأندلس قبل انهيار الدولة العربية الإسلامية هناك لم يكن يشكل أي تهديد ولا كانت الحركة الصهيونية أو أية حركة مشابهة لها قائمة وناشطة. ثم أنه بمنظور التحقيق التاريخي البحت اتهام سطحي ولا دليل عليه سوى حكاية الطبيب اليهودي الخاص لصلاح الدين، موسى بن ميمون القرطبي، وطلبه السماح لبعض ذويه بالرحيل والإقامة في فلسطين التي لم يكن سكن اليهود فيها ممنوعا، غير أن بعض من المشنعين الطائفيين يكررونه في أيامنا هذه دون تفكير. إنه اتهام تنفيه وتسفهه حقيقة أن نسبة اليهود السكانية في فلسطين وبعد ألف سنة على وفاة صلاح الدين من إجمالي سكان فلسطين لم تتجاوز 8% عام 1914 حسب تقدير الدولة العثمانية آنذاك. فأين ذهب اليهود الذين وطَّنهم صلاح الدين، علما بأن وجود اليهود بهذه النسبة، وربما أقل أو أكبر منها قليلا، كان مؤكدا طوال عصور ما قبل صلاح الدين وما بعده؟
والحقيقة هي أن صلاح الدين استجاب لطلب طبيبه الخاص وهو اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون القرطبي بالسماح له ولمجموعة من ذويه بالإقامة في فلسطين. وقد عاد بن ميمون نفسه لاحقا وعاش في مصر ومات فيها!
ولم يكن موسى بن ميمون القرطبي صهيونيا بل لم تكن الحركة الصهيونية الرجعية قد وجدت بعد، وكان الرجل يحسب على فلاسفة الإسلام. وأهم كتبه نقرأ أن (أهم كُتب ابن ميمون هو "دلالة الحائرين" وفيه لا يجد القارئ إلا صدى لأفكار فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام وخاصةً الأشاعرة. ولذلك فحين ألَّف إسرائيل ولفنسون كتابه (موسى بن ميمون حياته ومصنفاته)، وهو الكتابُ المنشور بالعربية في القاهرة سنـة 1936 كتب الشيخ مصطفى عبد الرزاق مقدمة الكتاب فقال فيها (إن موسى ابن ميمون يعدُّ من الفلاسفة المسلمين!) ثم ذكر العديد من الأدلة المؤيدة لذلك. وفى مقدمة تحقيقه لكتاب "دلالة الحائرين" يقول الدكتور/ حسين آتاى: إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الشهرستاني قد عدَّ حنين بن إسحاق النصرانى، فيلسوفاً إسلاميًّا؛ فإنه لا وجه للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون اليهودي. والدارس للثقافة الإسلامية حين يقرأ كتابه "دلالة الحائرين" يرى أن موسى بن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية فقد عاش طوال حياته بين مسلمين. ويلاحظ أنه عندما ينتقد المتكلمين المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ خالٍ من الشدة التي ينتقد بها المتكلمون المسلمون بعضهم بعضًا، وأنه ينقد بني دينه بشكلٍ أشد. إذاً، فابن ميمون يُعتبر فيلسوفاً إسلاميّاً. وهكذا يعتبره أيضا المؤرخون الأوروبيون / الموسوعة الحرة) أما من يحاولون تشويه الرجل والقول بأنه قال كلاما سيئا عن النبي العربي الكريم فليقدموا لنا دليلا واحدا ملموسا من كتاباته هو في هذا الصدد ولن يفعلوا ولن يجدوا، وهل يعقل ويصدق أن يقول أو يكتب فيلسوف يهودي شيئا سيئا عن النبي محمد في ذلك العصر الملتهب بالحروب ضد الصليبيين والذي أعدم فيه صلاح الدين فيلسوفا صوفيا سنيا لتهمة دينية تتعلق بمعتقداته هو السهروردي الذي توقفنا عند جريمة قتله في عهد صلاح الدين ويسلم اليهودي من العقاب؟
أما د.جاسب الموسوي المتخصص في هجاء صلاح الدين والتشنيع عليه في القنوات التلفزيونية المذهبية العراقية كقناة العهد، فيقول في حديث تلفزيوني إن توقيع صلاح الدين بالموافقة على الاستيطان اليهودي في فلسطين هو التوقيع الثاني بعد ان كان عمر بن الخطاب قد وافق ووقع التوقيع الأول على ذلك"3" وقد اتفق بن الخطاب مع اليهود على أن لهم حرية الإقامة فيها. وهذه قضية ملتبسة ومطروحة بشكل سيء الفهم والمرامي، وتدل على عبث خطير بالتاريخ ووقائعه وإقحام ساذج لقضايا وصراعات عصرنا في عصر مضى وانقضى لم تكن موجودة فيه، فالحالة الصراعية بين المسلمين واليهود بمدينة يثرب في زمن النبي العربي الكريم لا علاقة له بالصراع العربي الصهيوني في عصرنا على فلسطين من حيث الجوهر والأعراض ولا علاقة له بالحركة الصهيونية المعاصرة التي احتلت فلسطين بكاملها وجعلت قوما لا علاقة وثيقة لهم باليهود العبرانيين الساميين هم الإشكناز الأوروبيون يستوطنونها. وحتى مفردة "استيطان" لم تكن مستعملة ولها ذات الدلالات السياسية والفكرية التي تحملها اليوم فقد كان الإنسان حرا في الإقامة والسفر والتنقل وامتلاك الأرض والعقارات في بلاد الله الواسعة ولم يكن يعني للدولة شيئا أن تأتي قبيلة أو شخص من آسيا الوسطى لتستوطن قرب مدينة الموصل أو أن تهاجر قبيلة عراقية أو شامية من جنوب العراق الى صعيد مصر أو من اليمن إلى تونس كما حدث مع بني هلال. وإذا كان عمر بن الخطاب قد وافق على إقامة اليهود في فلسطين -كما يكرر اليوم بعض المذهبيين المعاصرين - فقد سبقه النبي العربي الكريم الى ذلك حين وافق على طلب اليهود السماح لهم بالهجرة شمالا نحو بلاد الشام بعد هزائمهم العسكرية وإجلائهم من الجزيرة العربية فوافق النبي على ذلك وسمع لهم بالهجرة إلى هناك وبقوا فيها طوال العصور اللاحقة. أما ما يقال عما فعله أبناء صلاح الدين بعد وفاته، من أنهم فرطوا بإمارة أبيهم وانتصاراته على الفرنجة الصليبيين، واختلفوا فيما بينهم وهادنوا أعداءهم فلا يتحمل مسؤوليته صلاح الدين بل أبناؤه، ولذلك لن نتوقف عند هذا المحور لأنه خارج نطاق هذا البحث ويقع في محور آخر يضمه التحلل الذي أصاب الإمارة الأيوبية شأنها في ذلك شأن جميع الإمارات والدويلات التي نشأت ثم تحللت وتلاشت في ذلك العصر. ولكننا سنوقف عند هذا التقييم المعاصر لصلاح الدين الأيوبي لنختم به وقفتنا هذه للدفاع عن صلاح الدين الأيوبي الرمز والإنسان. كتب الباحث العراقي الراحل هادي العلوي: (إذا تجاوزنا حكم الراشدين بلقاحيته -اللقاحية تعني مبادئ وسلوك عام يقوم على رفض الخضوع للدولة أيا كانت. ع ل-المعمدة بمبادئ حركة تاريخية صاعدة، يبدو صلاح الدين من الحكام القلائل الذين تمتعوا بالشعبية وأحبهم الناس الذين تعودوا على مقت الحكام وتمني زوالهم. ولا يرجع السبب في ذلك إلى مجرد بطولته في مقاومة الاحتلال الأوروبي، فقد تصدى لنفس المهمة حكام سابقون ولاحقون، ولم تكن لهم نفس المكانة في قلوب الناس. كان الظاهر بيبرس بطل مثله وخلده الوعي الشعبي في الملحمة المسماة باسمه. ولكن الناس أحبوا صلاح الدين كقائد بطل. يمكن في الحقيقة مقارنة صلاح الدين مع نور الدين الشهيد الذي منحه الشعب هذا اللقب رغم أنه مات على فراشه. وقد تكون تجربة نور الدين أعمق. "..."وفي علاقته مع الرعية، كان صلاح الدين مثل عمر بن الخطاب: مهيوب إنما غير مخيف. وهكذا كان في حياته الشخصية داخل القصر كما في طريقة تعامله مع الحاشية التي كانت آمنة من نزواته. وهذه حالة شاذة في سلوك الخلفاء والسلاطين منذ ابتداء الخلافة العباسية، فلم يتعرض أحد من أعوانه ووزرائه وقواده لعقوبة اعتباطية تصدر عن جنوح استبدادي. وأقصى عقوبة كانت العزل كما فعل مع وكيل الخزانة في دمشق بسبب بناء قصر"..." كانت علاقة صلاح الدين بجيشه تجري على نفس الخط، وقد بدت كاستعادة لسيرة علي بن أبي طالب، وفي انقطاع عن نمط العلاقة العبودية التي تحكمت في الجيش الإسلامي منذ الأمويين جريا على سنن الجيوش قديما وحديثا. وكان يوزع الغنائم التي تؤخذ من الإفرنج على الجيش، ولا يحتجن - يجمع ويدخر لنفسه - منها شيء خارج الاحتياجات العسكرية.
وقد تركت هذه الطريقة في مداراة المقاتلين مردود سلبي على وتيرة القتال أحيانا، بصورة تذكرنا بما وقع لعلي بن أبي طالب في معركة صفين وما بعدها، سوى أن صلاح الدين لم يواجه حالات تمرد كالتي عانى منها سلفه الراشدي، إذ لم يكن بمقدور الأوروبيين إيجاد رتل خامس في معسكره شبيه بما أوجده معاوية في معسكر علي، ولكن تضجر المقاتلين هو الذي أدى إلى الانسحاب من معركة عكا وحصار أنطاكيا. "...".
بلور صلاح الدين في سيرته كما في سياسته نموذج سلطان لا يخاف الناس منه لأنه غير مرعب لهم، ويحترمونه ويحبونه لأنه لا ينهبهم ويحيا حياة معتدلة منزهة عن مفاسد القصور. وهي في جملتها خصال رجل كردي عادي، لكن مأثرته تكمن في احتفاظه بهذه الخصال وهو سلطان ومتدين)"4". * معلومة: عندما فُتحت خزانة صلاح الدين الشخصية لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهمًا ناصريًا ودينارًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلِّف ملكًا ولا دارًا، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات، كما يروي بهاء الدين بن شداد في كتابه "النوادر السلطانية".