الكر والفر، مفردتان لا أظنهما جديدتين على ابن آدم، إذ يدخلان ويتداخلان في يومياته شاء أم أبى! حتى باتا كالليل والنهار، أو كالماء والهواء، أو كالشمس والقمر، إذ يلازمانه في قيامه وقعوده وعن يمينه وشماله في أحواله كلها، وإن صح تشبيهي فإن الكر والفر يبدآن عنده بالشهيق والزفير، ولايبرحانه في حله ومرتحله، ويلزمانه أغلب الأحيان في تمشية أموره مع أهله وصحبه ومن هم بمعيته، حتى مع من يحب ويهوى ويعشق، فإن شبهت الرضا كرا، فإن الزعل فر، وإن حسبت الابتسامة كرا، فإن العبوس فر، وإن أردت المضي في التشبيهات، فإن مقالي هذا سينقضي ثلثاه كما قال طيب الذكر رضا علي: (بين الزعل بين الرضا ثلثين من عمري انكضى). وما دمت عراقيا، أعيش على أرض وادي الرافدين، وأشرب من فراتيه، فإن الكر والفر يعدان من أبرز الثيمات التي أواجهها، أسوة بما يربو على الثلاثين مليون عراقي، يشاركونني جميعهم هاتين الثيمتين - مكرهين طبعا لا طائعين - حيث فطمنا منذ صغرنا على التعامل معهما، ومازلنا في ظهرانينا نقتاتهما زادا يوميا، مع أنهما "أمران أحلاهما مر".
وكما هما الماء والتمر أول مايفطر بهما الصائم، فإن الكر والفر أول ما يفتح العراقيون أعينهم عليه في صباحات أيامهم، فعلى أقل تقدير يكون أحدهما - أو اثناهما - مادة دسمة لنشرة الأخبار حتما، وتحديدا الأخبار الأمنية، بعدما أضحت الحروب شغلهم الشاغل، وزادهم اليومي من حيث يشعرون ولا يشعرون، بدليل أن سطوري هذي ستنساب من حيث أدري ولا أدري الى الحديث عنهما (AUTOMATICALLY) معلوم أن الوضع الأمني وأحداث العنف تتقلب بين كر وفر، وقد يكون الفر مفتعلا، وأحيانا أخرى قسريا، وفي الحالتين لا يحسم الفر الحرب، ولا يعد هزيمة، بل قد يحتسب تكتيكا ويكون إذاك خطة تنفذ في مرحلة من مراحل الحرب، ومن الأقوال المتوارثة من قادة الحروب، أن خسارة معركة لاتمثل تقهقرا للجيش، فلعلها انسحاب، والانسحاب صفحة من صفحات الحرب.
ولست أدري هل في عراقنا نهاية لهذه الصفحات؟
وإن كانت هناك نهاية.. فعلى أي وجه من وجوهها ستكون؟.
منذ أربعة عشر عاما، والعراق كله من شماله الى جنوبه ساحة حرب، وليس من مصلحة شعبه أن تُثار مشاكل وقلاقل لايحتملها الوضع المتأزم، فأمام ما تقوم به قوى الشر الغازية من خارج الحدود بإسالة دماء عراقية بريئة، وابتلاع أراض شاسعة، لايوجد عذر لجهة سياسية عراقية بالتنحي جانبا وأخذ موقف الحياد، إذ على السياسيين جميعا اتخاذ الخطوات التي تبعد هذا الشر أولا، ومن ثم العمل في سلم الأولويات، فيما يخص جداول أعمالهم.
لكن الذي يحدث غير هذا تماما، حيث أن بعض الساسة مشتركون بهدف واحد ونية واحدة، هي القضاء على كل ما من شأنه النهوض بالعملية السياسية، والسير بها باتجاهها الصحيح للالتفات بجد الى البناء والإعمار.
وبصريح العبارة يمكن القول بأن الحرب على العراق مقسمة الأدوار، بحسب المكان والزمان والصيغة والأسلوب، وكذلك الهدف والغاية والجدوى.
فداعش من جانبها تتولى سفك الدماء من دون وازع أخلاقي وديني وإنساني وعرفي، والكتل السياسية من جانبها تتحين الفرص وتتصيد في عكر المياه، وتتولى جملة أمور، أولها الإبقاء على أداء مؤسسات البلاد واجباتها بأدنى مستوى لها.
ثانيها الحفاظ على تصدرها واجهة قيادة البلد، بهيمنتها على صناديق الاقتراع باية وسيلة كانت، وبالتالي بفرض سيطرتها واستعلائها على القانون والدستور - اليوم وغدا -.
أما ثالثها فهو ضرب عصفورين او ثلاثة - أو أكثر - بحجارة واحدة، ويتمثل هذا بجملة مكاسب مادية ومعنوية، محصورة بأحزابها والفئات المتزلفة التي تنضوي تحت جنحها، ومن لف لفهم أمثال زيد وعبيد وجرار الخيط.
والأخير هذا له السبق دوما بالكر في جميع جولاته وصولاته، أما الفر، فمن نصيب المواطن على الدوام، إذ كما أمسى بالفر يصبح به، وكما أفطر بالفر، يتسحر به، بعدما طال صيامه لائذا بالفر، مستعينا به على قضاء حوائجه، راضيا قانعا خانعا بما هو عليه، تاركا الكر والكرة بيد من انتخبهم وجيّر لهم حقوقه ومصيره، بتوقيعه صكا على بياض أودعه يوما صناديق الافتراء.