معلوم أن اللغة العربية تتكون من ثمانية وعشرين حرفا، وبعض اللغويين يحتسبون الهمزة حرفا، وبذا يكون العدد الكلي للأحرف التي يستخدمها كتاب العربية تسعة وعشرين حرفا، عدا نقدا. وبتقديم حرف على آخر، وتركيب واحد مع ثانٍ، ودمج هذا مع ذاك، تتكون مفرداتنا وكلماتنا التي ننطق بها.
التغيير.. مفردة أظنها أكثر المفردات التي تتناقلها الأفكار، وتتلقاها الأسماع، وتلوكها الألسن، لاسيما بعد "عام السعد" 2003. فالكل ينشد التغيير، والكل يرحب به ويسعى الى إحداثه، من ضمنهم أصحاب المناصب العليا الضامنين مصائرهم سواء أحصل تغيير أم لم يحصل!
فنراهم لايتوانون عن الحض عليه، ويبدون اهتماما فائضا بالحث على تفعيله، أما المواطن فهو أول من يقع عليه فعل التغيير، سواء أسلبا كان أم أيجابا! كذلك هو الأول والأخير الذي ليس بيده غير الانصياع للأمر الواقع، هذا الأمر الذي بات يتحكم فيه ساسة جدد أتوا بعد التغيير ايضا. فالتغيير إذن، ليس بدعة او حدثا تأتي به السماء ليستجد على الأرض إنباتا وتكاثرا، بل هو واقع مفروض رغما عن المواطن وعن المسؤول، عن الراعي والرعية، ومن المفترض أن يكون مابعد التغيير جديدا ومغايرا لما قبله.
مقابل مفردة التغيير، هناك مفردة أخرى مرت على وادي الرافدين في أكثر من حقبة من عمره، تلك هي مفردة السقوط. ولو احتسبنا مفردة السقوط هي الأخرى ليست جديدة، فعلينا أن نتوقع حدوثه في أي حين وأية مرحلة نعيشها، وهو حدث يشمل التغيير ويتضمنه بشكل من أشكاله حتما.
فبغداد سبق أن كبلتها مفردة السقوط أكثر من مرة على مر تأريخها، والتأريخ يحدثنا بكل صراحة وشفافية عن هذا، إذ سقطت بغداد عاصمة العباسيين يوم الأحد الموافق 10 شباط عام 1258 على يد هولاكو بن تولوي بن جنكيزخان.
وسقطت ثانية عام 1831 بأيدي الجيش العثماني بعد مايقارب 82 عاما من سيطرة المماليك لها. وشاء قدرها أن تسقط ثالثة في الحادي عشر من آذار عام 1917 يوم كانت ولاية عثمانية على يد الجيش البريطاني، خلال القتال مع الاتراك العثمانيين في الحرب العالمية الأولى.
أما سقوطها الأخير فقد كان بالأمس القريب في التاسع من نيسان عام 2003 وهذه المرة على يد القوات الأمريكية.
ولو ابتعدنا عن مفردتي السقوط والتغيير، فإن مفردات؛ الضيم.. العوز.. الفقر.. الفاقة.. كذلك القمع والقهر وغمط الحقوق.. والنفي والتشريد والسجن والموت، كلها وغيرها أخريات ليست جديدة على العراق من عقود بل قرون خلت وحتى يومنا هذا، إذ ما فتئ العراقيون يرتّقون فتقا هنا أو خرقا هناك لعل عراقهم يستقر، ويهنأون بخيراته التي بددها سلاطين وحكام، كانت لهم صولات وجولات في سني حكمهم، إذ لم يراعوا خلالها حلالا او حراما في نهب المال، كما أنهم نأوا عن العيب واللاجائز والخزي، وما الى هذا من مفردات غير مشرفة لابن آدم، فطالت سرقاتهم بعد أن استطالت أيديهم وتلاقفت الغالي والنفيس من حقوق العراقيين في بلدهم، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل علا سقف أطماعهم الى "خبزة" العراقيين ومصادر عيشهم، فتعرضت هي الأخرى للتقطع والتقتير.
منذ عام 2003 حتى اللحظة اتخذت المفردات آنفة الذكر حيزا كبيرا في مسامع العراقيين، إلا أن مفردة التغيير باتت اليوم ضرورة وحاجة ملحة. والتغيير يأخذ من المعاني الكثير، ومن الصور أكثر، والعجيب الغريب في ساسة العراق الجدد أنهم مشغولون بالتغيير ويحتكرون ماهيته، فهم يقدرونها تقديرا على مقاساتهم وأهوائهم وأمزجتهم، في حين أن المواطن قبلهم يريد التغيير وهو بأمس الحاجة اليه، بدءًا من أصغر مفردات حياته، لكنه يهيم في وادِ وهم يعمهون في غيهم في وادِ غير ذي ضمير ووطنية وإنسانية. فيغمض لهم جفن ويهدأ لهم بال ويرتاح لهم ضمير وتقر لهم عين.
ومن المؤكد ان أصحاب الأمر والنهي، والحل والعقد، والبت والحكم في صنع القرار، على دراية بأعداد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر بألف درجة، ولم تصلهم رائحة أمل حتى لو حصل ألف تغيير.
فالتغيير في نظر المواطن هو النقلة النوعية في جوانب حياته، التي مل من تردّي أوضاعها يوما بعد آخر وعاما بعد عام، وأتعبه ضنك العيش، وهو في بلد يفيض نهراه حبًا وخيرًا وعطاءً، وتتنوع خيراته تحت الأرض وفوقها، ومع كل هذا لم يلمس أي تغيير من الذي يسمعه منذ عام 2003 إذ يصطبح بالأمل ويمسي بخيبته، وهذا دأبه في حياته منذ الربع الأخير من القرن المنصرم، حتى التبس عليه مفهوم المفردتين -التغيير والسقوط- فهل أن التغيير لايمكن حدوثه إلا بالسقوط؟ وهل كل سقوط يعقبه تغيير؟
هذا ما لم تبن علائمه بعد السقوط الأخير، وهذا الإبهام يذكرنا بالسؤال الجدلي؛ هل الدجاجة قبل البيضة؟ أم البيضة قبل الدجاجة!.