يحتكم الإنسان بعقله -إن كان سويا- في حال الدنيا وتحولاتها، ويتفكر في إقبالها وإدبارها، وله في تقلباتها خير واعظ -إن كان يتعظ- ولعل الموت الذي يطيح بمعيتنا ومجايلينا فردا تلو الفرد، أول الواعظين وأصدقهم لمن يعتبر به، فهو آخر مطافنا جميعا، وتسبقه في الدنيا شدائد نمر بها، ومصائب تصيبنا، هي الأخرى خير معلم وناصح وواعظ، يقول شاعر: جزى الله الشدائد كل خير ولو أنها نغصتني بريقي وماشكري لها إلا لأنها عرفتني عدوي من صديقي وقد أجاد شاعر الأبوذية أيما إجادة حين حاكى هذين البيتين، فأصاب المرمى ذاته فيما أنشد، إذ قال: جفاني طير سعدي.. علّ مني ومزاحمة الليالي.. علمني جزى الله النوايب.. علمني صديجي من عدوي عالوطيه لاأظن العراق قد مر في عصره الحديث بأقسى من حقبتين، أستطيع تحديد الأولى بالسنوات 2006- 2007- 2008. أما الثانية فهي ماحدث من شرخ كبير و (شگ مايتخيط) ذاك هو أحداث حزيران عام 2014، وأعني بها اغتصاب داعش أرضنا وعرضنا وضرعنا وزرعنا، وكذلك كرامتنا وكبرياءنا. وإذا كانت الحقبة الأولى قد تزامنت مع وجود قوات أجنبية على أرض البلاد، تحت مسمى الاحتلال، اتخذها حكام تلك الحقبة شماعة لتعليق فشلهم عليها، فإن الثانية قد وقعت أحداثها والعراق يتمتع بالسيادة على أرضه كاملة غير منقوصة -كما يدعي أرباب الحكم فيه- فالأمريكان "بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا"..! وعلى هذا فإن ذريعة الاحتلال فقدت قوتها كعذر أو مسوغ، يبرر به ماسكو دفة الحكم في العراق ماحدث. وباستعراض سريع وتعداد على عجالة لأعداء العراق -المفترضين والحقيقيين- فإن البحث عنهم قطعا يجب أن يشمل الإنسان في الداخل قبل الإنسان في الخارج، إذ مع المكائد والمؤامرات التي تحاك على وادي الرافدين منذ الأزل، يصنعها أعداء له من خارج حدوده، هناك من ينخر في نسيجه من داخله، وهم بعض أهله ومن حبال نسيجه المتراص. ولو لم يهيئ من في الداخل الأرض الخصبة والحضن الدافئ، لما قدمت اليه من مشارق الأرض ومغاربها مخلوقات تعتاش على موته، وتقيم أعراسها على مآتمه، وتنصب أفراحها على أتراحه، ولنا في تاريخنا القديم والمعاصر والحديث أمثلة كثيرة. أما الحائكون من خلف الحدود فالحديث عنهم يطول، وهم على أشكال عديدة، وتدفعهم غايات متعددة، يتشعب الحديث عنهم وعنها في مقامي هذا، فيضيق بكمها وحجمها وتعدادها، فسأقتصر على ذكر شكل واحد منهم، ذاك الشكل هو العائلة المالكة آل سعود. آل سعود.. عائلة قطنت شبه الجزيرة العربية، وتملّك شيوخها أراضي شاسعة من نجد والحجاز، فصارت الأرض وماتحمله وما تبطنه تحت تصرفهم، وريعها في جيوبهم، ونشأت المملكة العربية السعودية على هذا الأساس، ولاريب بهذا كله. إلا أن ولادة الدعوة الوهابية بزعامة مؤسسها محمد بن عبد الوهاب في أواسط القرن الثامن عشر وتوغلها في امر المملكة، فسح المجال لشيوخها بالتدخل بسياسات الدولة الداخلية، وعلاقاتها مع الدول الإقليمية ولاسيما الدولة المتاخمة لها من الشمال وهي العراق، فكان له أثر بالغ في كثير مما يحدث ليس في الداخل العراقي فحسب، بل في المنطقة برمتها. فمنذ أن تحالف أبناء مؤسس الدعوة الوهابية محمد بن عبد الوهاب مع آل سعود، بدأت غاراتهم المتتالية على العراق، وبقية بقاع الجزيرة العربية. وباستقراء سريع لأفعال الوهابيين بمساندة آل سعود يطلعنا التاريخ على كثير وكثير جدا منها. إذ أغاروا على الكويت سنة 1788 واحتلوها، ثم واصلوا تقدمهم إلى الشمال، وكانوا يريدون الاستيلاء على كربلاء، وعلى قبر الإمام الحسين لهدمه ومنع الزيارة اليه. ثم في نيسان سنة 1803 شنّوا هجوما على مكة واحتلوها، وفي ربيع سنة 1804 سقطت المدينة المنورة في أيديهم، فخربوا القباب الضخمة التي تظلّل قبر الرسول، وجرّدوها من جميع النفائس. إن التأريخ الأسود الذي رافق الدعوة الوهابية منذ نشأتها، يرافق كذلك كل من احتضنها ووفر لها الأجواء المناسبة لتترعرع في أرضه، وتلد له شيوخا ومفتين ينادون -من ضمن ماينادون- بالعداء للأفكار التقدمية المتحضرة، ويضدون المدنية ومناهج الحياة المعاصرة، فيحاربون تبعا لهذا كل مظاهر الرفاهية ودعة العيش، ويسخّرون السماء وكتابها، والأرض وأنبياءها، لتشويه الجمال والألفة والتوادد والتراحم والتعاطف، فإنْ جسدا اشتكى منه عضو، لا يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا المؤمن مرآة المؤمن، ولا الدين النصيحة، ولا هو المعاملة، ولا إتمام مكارم الأخلاق، ولا الكلمة الطيبة صدقة، ولا أخ في الدين، ولا نظير في الخلق، ولا قوارير، ولا جير ولا بسامير. وبذا فإن من المستحيل التقرب من السعودية كدولة شقيقة صديقة، إلا بالابتعاد عن السعودية كمذهب وهابي تدميري.