منذ عام 2003 انقلبت حياة العراقيين رأسا على عقب، أو بتعبير أصح عقبا على عقب، إذ يبدو أن الرأس ومكانة الصدارة حرمت على العراقيين في العهدين، الأول عهد القائد الضرورة صدام حسين، والثاني عهد القادة غير الضروريين وغير النافعين واللاجدوى من وجودهم، بل في وجودهم كل الضرر والخراب، وحاشاهم من فعل الخير وما يعود به للعراقيين، فقد عقدوا همتهم لحلب خيرات العراق حلبا، وشدوا عزمهم لشفط "نفطات" العراق شفطا، وشمروا عن سواعدهم لنهب ثروات البلاد نهبا، فاستطيبوا تبعا لهذا أكل الحرام، واستساغوا طعم السحت، واستحلوا الحرام، وغضوا أنظارهم عن العيب، وغادرت ضمائرهم مفردات الجائز والمعقول والمقبول، فيما حطت مفردات اللاجائز واللامعقول واللامقبول ركابها عندهم، فصار طبيعيا تضادهم مع مصالح العراقيين، وباتوا لايأبهون بحاضر البلاد ولامستقبلها، وقطعا هم لن يحيدوا عن ديدنهم هذا، ولن يغيروا ما بأنفسهم، ولن يبدلوا تبديلا. ولعلي أقارب في وصفهم ببيت الأبوذية القائل على لسان العراقيين:
طحت بناس لا مذهب... ولا دين
ومنهم ماتصح قرضة... ولا دين
هم شفت البغل يولد... ولا دين
يحلبونه ويسوونه رثيه
وياليتهم يتصافون فيما بينهم لتأخذ سلبياتهم شيئا من الـ (استاتيكية) فينعم العراقيون حينها باستقرار المآل على أدنى حال، إذ مافتئت خلافاتهم تتعالى أصواتها بين نعيق ونهيق، ومابرحت ساحة صراعاتهم تتسع بين ناطح وجامح، حتى غدت حلبتها تشغل رقعة تبلغ مساحتها (437,072) كم2، تشمل -فيما تشمل- السهول والجبال والصحارى والأهوار والمستنقعات، وهي صراعات على أصعدة عدة، فمن كان منهم متكلما او متقولا، نراه يستخدم اللقاءات المتلفزة والتصريحات الصحفية أداة يبرز عن طريقها عضلاته، ومن لايستطيع التعبير بالكلمات يستخدم بكل سهولة ماتيسر له من أدوات التعبير من دون احتساب صلاحيتها او ذائقتها وسط المجتمع، فقوانين صراعاتهم تبيح لهم كل السبل والطرق لإتمام مامكلفين به. أما المتفرجون فيربو عددهم على ثلاثين مليون متفرج، ومن غرائب تلك الصراعات أن البهلوانيات بين المتصارعين، تعود بالويلات والمصائب على المتفرجين، فيما ينعم اللاعبون بمتعة الفوز ونيل الأوسمة والأحزمة والكؤوس، فضلا عن الامتيازات الدنيوية الأخرى.
إن نظرة على عجالة لما يدور في العراق من أحداث، ومتابعة تسلسلها من ألفها الى يائها، يتبين بوضوح مدى حنكة ترتيبها زمانا ومكانا وحيثيات، ومراعاة التقديم والتأخير بها بدقة وإمعان شديدين، واستبدال بعضها ببعض متى ما تطلب الأمر. ولايقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه الى استحداث مستجدات وكأنها قد وضعت (standby) مع متغيرات المعطيات، وما هذا إلا لإتمام مسرحية بدأت فصولها عام 2003، ولا أظنني وقارئ سطوري هذي ومجايلينا سندرك فصولها الأخيرة، إذ أن أستارها لن تسدل على مدى جيل او اثنين او حتى عشرة، بل هي مستمرة العرض الى إشعار آخر. أما الأخير هذا فمن المؤسف والمؤلم حقا أنه غير مسمى، ذلك لأن من أهم مقومات استمرار المسرحية استمرار التصفيق، والأخير بدوره مابرح يعلو ويعلو بأكف العراقيين لا غيرهم، وهم المسؤول الأول والأخير -الى حد ما- عن تداعيات فصول مايجري عليهم ولهم وبحقهم من مسرحيات.
في بيت قاله ابن زريق البغدادي يتحسر فيه على ما لم يحسن التعامل معه حتى فقده، شبه كبير لواقع العراقيين، حيث يقول ابن زريق:
أُعطيت ملكا لم أحسن سياسته
وكذاك من لايسوس الملك يخلعه
فلقد أنزلت السماء في حزيران عام 2003 على العراقيين طبقا من الألماس، وأتاحت لهم فرصة ذهبية، بزوال نظام دكتاتوري كان انقشاعه حلما غير قابل للتحقيق، وكان حريا بهم استغلال ذاك التغيير على أتم وجه، واستثماره خير استثمار، باستنفار هممهم وشحذ عقولهم بما يخدم وضعهم المرحلي، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث، فلا خلفاء صدام أتوا بخير للعراق والعراقيين، ولا العراقيون عرفوا كيف ينتقون حاكميهم حين تعلق الأمر بصناديق الاقتراع.
ومازال دأبهم كما هو حتى ساعة إعداد هذا المقال، فرغم تكرار تجربة الانتخابات مرات ثلاث، ورغم الويلات التي انزلقوا في أتون جحيمها من جراء سوء انتقائهم قادتهم، مامن بارقة أمل تلوح في أفق سماء البلاد، لتجربة ناجحة قادمة، سواء أرابعة كانت أم خامسة أم عاشرة!.