عادة ما نسمع في تقارير المتخصصين بعلم الاقتصاد، أن من اهم الموارد والمتطلبات الضرورية لإعمار البلدان وبنائها هو رأس المال البشري، ويؤكدون دوما أن من غير توفير الكفاءات البشرية المتنوعة في مختلف الاختصاصات العلمية والهندسية والزراعية والطبية وغيرها، لن يتمكن أي مجتمع من البدء باعمال البناء والاعمار، الى جانب توفير الارادة السياسية من قبل صناع القرار في البلد.
إذن، أهم عنصر في البدء بالعمران هو الإنسان، والمقصود طبعا الإنسان الكفوء في مجال من مجالات الحياة، إذ هو الحجر الأساس الذي تنطلق منه المشاريع التي تخدم الإنسانية جمعاء.
هنا في عراقنا، لدينا من الكفاءات كثير وكثير جدا بين ظهرانينا، وهم ليسوا وليدي اليوم او الأمس القريب، بل أن أمهات العراق ولادات عطاءات منذ نشوء الحضارات الأولى على أرض السواد، ومن قلب صفحات التأريخ تبين له الكم الهائل من ذوي العقول والعلوم والآداب الذين تزخر بهم صفحاته.
وباستذكار العقود الخمسة الماضية، نجد أن حدثا شاخصا يتكرر كل عام، وتحديدا في شهر تشرين الأول، ذاك هو استعراض الشركات والوزارات العراقية نتاجاتها، أسوة بشركات من دول عالمية على أرض معرض بغداد الدولي، ونرى التسابق الرائع للشركات والبلدان في عرض آخر ابتكاراتها وصناعاتها، وكلها تتفاخر بما وصلت اليه صناعات شعوبها، وكما أشرت ليس بجديد على العراق والعراقيين ان يكون لكفاءاته حضور مميز في مجال الصناعات على تعدد أنواعها، فوادي الرافدين منذ فجر التاريخ أرض خصبة لكثير من الإختراعات والإكتشافات في مجالات العلوم والفنون.
ولم تبخل أمهات العراقيين بإنجاب علماء كانوا بشائر وطليعة كثير مما وصل اليه علماء الغرب اليوم، حتى أن الأخيرين أعادوا علينا إرهاصات علمائنا من أفكار وابتكارات، بعد أن تمتعوا بعصارتها، فصاروا كما يقال؛ (أشتروا منا وباعوا علينا).
اما في مجال الفنون، فان مخطوطات الأولين ورسومهم مازالت شاخصة في آثار أور وبابل وآشور، لتشهد انهم أول من ابتكر فن الزخرفة على مشيداتهم، كما انهم اول من اخترع البناء المقوس الذي أثبتوا متانته فيزياويا. ولهم قصب السبق في استغلال الآجر باستحداث عمارة جديدة، والوثوب به الى قمم شاهقة في معابدهم التي أسموها “زاقورة” وترجمتها “القمة المرتفعة”.
كل هذا حدث منذ ألوف السنين، وكان لقادة هذه الرقعة الجغرافية وملوكها ورؤسائها الباع الطويل واليد الطولى، في رفد العلماء وفتح ابواب خزائن الدولة وبيوت المال، فضلا عن ابواب قصور الخلافة والدولة، وتسخير الطاقات البشرية والمادية لدعم الكفاءات والقدرات من ذوي العقول، لإيصال علومهم وجديد اختراعاتهم الى دول المشرق والمغرب، الذين بدورهم استمدوا من تلك العقول أفكارهم، وطوروا عبرها صناعاتهم وباقي مرافق حياتهم.
ويشهد بذلك المؤرخون والكتاب الذين تزخر مؤلفاتهم بانجازات العراقيين القدماء.
ومن المؤكد ان قادة العراق الحاليين مطلعون على تلك المؤرخات، فهل سأل أحد منهم نفسه يوما: هل سأحتسب يوما من القادة الذين أسهموا في نشر العلم والأدب وباقي المعارف، بفتح بابي للعلماء وطلاب العلم؟ وأدخل بذلك سفر التاريخ ويشار إلي بالبنان كقائد حدث في عصري تقدم وازدهار تتغنى الشعراء به.
أم سينشد الشعراء غير ذلك في عرقلتي سير العلم ومحاربة الرقي! فالتأريخ لم يفته أن يدون الصنف الأخير من القادة بالخط العريض، ولعل أقرب ماقيل قول شاعر ناعيا بغداد في حقبة من حقبها السوداء:
بغداد يا بغداد يا بلد الرشيد
ذبحوك يا أختاه من حبل الوريد
جعلوك يا أختاه أرخص سلعة
باعوك يا بغداد في سوق العبيد
ويل لبغداد الرشيد وأهلها
فهولاكو في بغداد يولد من جديد
وعدوا بتحرير العراق وأهله
وعدوك يا بغداد بالعيش الرغيد
زهدوا بدجلة والفرات وعرضهم
باعوك في الحانات بالثمن الزهيد
هذا واقع حال، أراه اليوم في شوارع بغداد ودجلتها وسمائها، واقع ألمسه كل يوم على واجهات بناياتها وفي حدائقها، واقع أعيشه كل لحظة وأنا أعايش أهلها، فقد أضحوا كشمعة، حصتها من النار اللسع والذوبان، فيما حصة النور تذهب الى خفافيش الظلام خلسة، تحت جنح ليل مدلهم طال مكوثه عند العراقيين، ونأى الصبح عنهم، بما لايدع للأمل فسحة يعللون بها أنفسهم، فضاقت وضاق عيشهم فيها.