يعيش العراقيون منذ انتهاء العملية الانتخابية الأخيرة ارتباكا وقلقا من مقبل الأيام، وهو ليس أمرا طارئا، أو حدثا عابرا، فلو عدنا بضعة أشهر الى الوراء، للمسنا أن المواطن نفسه كان يخطط لمقاطعة من يسمون أنفسهم ممثلين عنه، وما تفكيره وعزمه وتنفيذه المقاطعة، إلا رد فعل لأفعال تكررت في عمليات انتخابية سابقة.
كان أبطالها الممثلون أنفسهم، وبحكم تكرار التجربة فقد تنامى حدسه ونضج تخمينه وارتقى توقعه، حتى بلغت به القدرة على استقراء مآل الأمور، وكشف المستور بما يتأبطه له ممثلوه، الى حد الاستنتاج السليم والحكم الصائب والرأي السديد، فلقد تكونت لديه هذه الملَكة، بعد تعاقب الكاذبين وتتالي المخادعين من ممثليه.
ويحضرني هنا بيت من شعر الدارمي، قالته عاشقة لمعشوقها، بعد أن منحته الثقة المطلقة، فيما أبدى لها بعد حين النكران والجحود، وخذلها أيما خذلان، فراحت قائلة:
بيّنت يا كبيحان من ذن حجاياك
وحلكي ارد اشطفه بماي جي سولف وياك
وهو إشارة منها الى الندم على صفاء نيتها وحسن ظنها به.
وكما أشرت بدءا، فإن الوضع المعاش اليوم في الشارع العراقي ليس غريبا او مفاجئا، بل هو متوقع بعد أن طال صبر العراقيين على سوء الإدارات والقيادات في مفاصل البلاد جميعها، ولاسيما التشريعية منها.
ومن المؤكد أن امتعاض المرؤوسين، إزاء رؤوس الحكم وأولي الأمر والمتصدرين للقرارات في البلاد، لم يكن من وحي (البطر)،.
وسواء أكان الممثلون الحاليون، أم الذين سيتسنمون مهامهم بعد موافقة المحكمة الاتحادية العليا على أسمائهم!
فإن النظرة التي تبلورت في ذهن المواطن هي نفسها، بفعل تراكم الإحباطات وتعدد السلبيات.
فما حدث من مقاطعة، وما يحدث اليوم من نفور من رائحة المرشحين، هو رد فعل طبيعي، أو لعله أضعف الإيمان، أو قد يكون آخر الدواء، بعد أن أعيت المواطن سبل الاستطباب والعلاجات الناجعة لمشاكله المتأصلة والمرافقة له منذ عقود.
وقد عول المواطن قبل عقد ونصف العقد، على من يتسنم زمام السلطة والحكم والتحكم بمصائر البلاد أنه فارس الأحلام، بعد عقود الجور والظلم والقمع التي عاشها، وقد بنى آماله على هذا الأساس، من دون أن يساوره شك في جدوى التغيير الجذري عام 2003.
إلا أن النتائج لم تأت بما تشتهي السفن، بل أتت بما يسد (مشتهاة) المواطن الذي يأمل أن يعيش في كنف ممثلين عنه، يرعون حقوقه ويصونونها، ويؤمنون له مستلزمات معيشته بالحد المعقول والمقبول.
وما لاشك فيه، أن كثرة منعطفات خيبة الأمل، وارتفاع سقف الخذلان، يؤججان في نفس المواطن شعورا بالاضطهاد، ويتفاقم إحساسه بالألم لضياع حقوقه وغمطها، وسوء أوضاعه وحال بلاده المزري، طيلة السنوات الخمسة عشر الماضية، علاوة على العقود التي سبقتها، مايفضي بالنتيجة الى صدمة مريرة، يبنى على أساسها المواطن موقفه ورأيه بحاكميه، في مجلسي التشريع والتنفيذ على حد سواء.
وليس لأي منظر ومطلع على الواقع العراقي من مناص، بإعطاء الحق كل الحق للمواطن، إذ أن الغالبية العظمى من متسيدي القرار في البلاد، يقومون بدورهم حسب الأصول، في إكمال الدور الذي كان يلعبه المنضوون تحت جلباب النظام، إبّان حكم رئيسه صدام، من الذين يحلو لهم تذوق آلام العراقيين، والذين ان لم يجدوا نارا، استعانوا بنار الصديق أو العدو أو الإثنين معا، لتحقيق تلك الرغبة الجامحة التي تنم عن ساديّتهم ودمويتهم، وما استغلالهم ظرفا حرجا، او حالة قلقة يمر بها العراق، الا محك لإظهار معدنهم الصدئ، كما يقول المثل العراقي: (رزق البزازين على المعثّرات).
إن الصنم الذي سقط عام 2003 ليس الوحيد الذي كان حتميا سقوطه، فهناك أصنام أخرى ينبغي ان تسقط، وهذه مهمة سفّانَي المركب الجديد، اللذين سيعتليان منصب الرئيس في المجلسين التنفيذي والتشريعي، حيث يتوجب عليهما قطع أي يد تعبث بسلامة شراعه، وقطع دابر كل من يسير ضد التيار المؤدي الى بر الامان.
ويالها من خيبة أمل تقصم ظهر البلاد، إن لبس من عول عليهم المواطن من المرشحين الجدد، قناع سابقيهم في التنكر بما وعدوه به، لاسيما وهم بدأوا من اليوم يتصارعون على استحواذ المناصب والكراسي، فمنهم من يشد على يد التحاصص، ومنهم من يريد الإبقاء على الحال رغم سوئه، ومنهم من (يحود النار لكرصته) ومنهم من يتحالف ويتكاتف ويتعاون مع آخرين على الإثم والعدوان، ويتضادد مع كل من يتعاون على البر والتقوى، ومنهم من يتربص للتصيد في عكر المياه، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومابدلوا تبديلا.