تعودنا بين فينة وأخرى، أن يطل علينا ابتكار جهاز جديد أو آلة مستحدثة، لها تماس مباشر بجانب من جوانب يوميات الإنسان، وعادة ما يتفاعل هذا الجديد طرديا مع متطورات العصر بأشكاله المستحدثة. فهناك مثلا؛ الهاتف الذكي وما يوفره من خدمات تتأقلم مع متطلبات الإنسان المتحضر، لاسيما متعدد المشاغل والالتزامات.
كذلك هناك البطاقة الذكية التي انتشرت على قدم وساق في دقائق التعاملات اليومية في كثير من دول العالم، وتعريفات الهوية الشخصية أمام المؤسسات الحكومية والأهلية. وهناك أيضا السيارة الذكية، كذلك الروبوت الذكي، وهو صيحة حديثة من صيحات توفير الخدمة للانسان، بتسخير الآلة للقيام بواجبات لم يكن يقوم بها غيره، فجاءت بتوفير الوقت والجهد والمال له.
بالأمس القريب ابتكر أحدهم تربة من نوع خاص أطلق عليها اسم التربة الذكية، ذاك لأنها تغني عن استخدام المواد الكيميائية والمبيدات الحشرية. إذ تقوم بشكل ذاتي بدور الهرمونات والمبيدات بعيدا عن المواد الكيميائية.
ولانعلم مايأتي به الإنسان لأخيه الإنسان في المستقبل من اختراعات ذكية أخرى، تغنيه عن الكثير من المتاعب والفعاليات الجسدية والذهنية والنفسية. ولكن مع كل هذه التكنولوجيا في التسهيلات الحياتية، يبقى العنصر الأساس في إدارة هذه الأجهزة والمستلزمات هو الإنسان ذاته، فبتوجيهه السليم يتمكن من الوصول الى النتائج الناجعة والمجدية والمتوخاة من هذه الاختراعات.
هنا في عراقنا أرى أن الذكاء أول عنصر مغيب عن التفعيل والاستخدام، وإن أردنا تغيير أوضاع البلد المتردية، يتوجب علينا إعادة تفعيله في مفاصل حياتنا جميعها، أداة ووسيلة ونهجا وأسلوبا وتفكيرا، ليس فيما يتعلق بمواقع مسؤوليات الجهات القيادية ببلدنا فحسب، بل يشترك المواطن في الشارع والبيت والمعمل، وكذلك الموظف في مؤسسات الدولة والمؤسسات المدنية على اختلاف مناصبهم ودرجاتها، فعلى الجميع استغلال عنصر الذكاء في كل خطوة يخطونها، لاسيما في عملهم الذي له تداعيات تعود بالنفع العام إن أحسن فيه، وبالضرر العام والشامل إن أساء أو أخفق بأدائه.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فإن العراقيين لم يسخّروا ذكاءهم إزاء عملية كان حريا بهم جميعا إيلاؤها الدرجة القصوى من التحلي بالذكاء، وتجييرها لصالح الخير والمصلحة العامة للبلد، تلك هي عملية الانتخابات البرلمانية، ومن المعيب أن صبر العراقيين عقودا على الدكتاتورية، وتحملهم ضغوطاتها، أن لا يعقبه استثمار يكلله العراقيون أنفسهم، بالفوز والنجاح لصالحهم بامتياز، لا لصالح الكتل والأحزاب والفئات المنتفعة من عملية الانتخابات، ولا لحساب المرشحين الرامين الى الانتفاع منها كما انتفع الذين من قبلهم..!
إن عملية الانتخابات الأخيرة التي مضى عليها مامضى من عمر العراقيين، كان من الواجب عليهم تدارك الأخطاء السابقة، وتسخير كل طاقاتهم الذكية، لينتقوا الرجل الأنسب في "العرس" الانتخابي، بمقاييس تختلف عن المقاييس التي اتبعت في "العزاءات" الانتخابية السابقة، ووضعه في المكان المناسب، من دون أي اعتبار للمحسوبية الفئوية او المنسوبية العشائرية والقومية والعرقية والدينية، وكان على المواطن وضع السنين الماضيات ومردودات عملية الانتخابات السابقة نصب عينه، للمقارنة بين اختياره السابق لكتل وأحزاب وشخوص خذلوه وخيبوا ظنه، بتملصهم من وعودهم ونقضهم عهودهم التي قطعوها، وحنثهم بقسمهم الذي أدوه، وبين مسؤولية علامة الصح التي وضعها إزاء من سلمهم الجمل بما حمل.
فمعايير التقييم هي التي تحدد مصائر الملايين ومستقبل بلدهم، وكان من الضرورة على الناخب انتهاج فكر قويم في تحديد حيثيات المرشح، وكان عليه أيضا النظر للمرشح بعدسة مغايرة لتلك التي استخدمها سابقا، بعد ثبات فشلها.
إذ هناك من المرشحين دواهٍ وعمالقة في المراءاة والتضليل، وأسياد لايبارون في الخديعة والمكر والحيلة، ليس أولها ارتداء عمامة بيضاء او سوداء، وليس آخرها توزيع الدنيويات من الحاجيات المنزلية والمبالغ النقدية تحت ذريعة المساعدة او الهبة، كما أن الزيارات الميدانية التي قاموا بها قبيل طقوس التصويت، باتت فعالية سمجة حد السخافة، وانكشف المتوخى منها أمام أعين أبسط المواطنين.
ما تقدم من طرح، هو في حقيقة الأمر لوم وتقريع لي أولا ولأهلي العراقيين ثانيا، ولا ألوم حظنا وأنعته بالعاثر، إذ كان علينا العمل الجاد على انتقاء ذكي.. وغربلة ذكية.. بوحدات قياس ذكية.. لتكون الحصيلة انتخابا ذكيا، فمن غير المعقول ولا المقبول، أن يدخل الذكاء أجهزتنا وآلاتنا وأدواتنا بسرعة الصوت، فيما يخرج من رؤوسنا بسرعة البرق؟